المدن الميتة في شمال سوريا
(0)    
المرتبة: 231,909
تاريخ النشر: 25/03/2022
الناشر: دار المقتبس
نبذة نيل وفرات:أطلق بعض الباحثين وهو "ماترن" على المدن الميتة في شمال سوريا اسم المدن، وهي ليست سوى قرىً صغيرة... وسماها بعضهم وهو "تشالينكو" بالقرى القديمة أو وهي في الحقيقة تجمعات بشرية بدأت بالتكون منذ بداية القرن الرابع، ثم أخذت بالإزدهار تدريجياً، ووصلت إلى قمة ازدهارها في القرن السادس... ثم بدأ ...العمران فيها بالتدهور، وازدهارها بالتراجع - كما سيتم بيان أسباب ذلك في ثنايا هذه الدراسة - فبدأ الناس بهجرها تدريجياً، فهي القرى المهجورة، ثم تعاقبت عليها الزلازل وعوامل الطبيعة، فأصبحت في حكم الميتة... فهي القرى الميتة... لتطالها يد النسيان حتى القرن التاسع عشر...
إذن فهي القرى المنسبة... سمّها ما شئت فكل هذه التسميات صحيحة، فأنت إذا قمت بزيارة المطقة الجبلية قليلة الإرتفاع، والمقسمة إلى ثلاث كتل جبلية والتي تضخم: 1- كتلة جبل سمعان، 2- كتلة جبال باريشا والأعلى والدويلة والوسطاني، 3- وكتلة جبل الزاوية؛ والتي تقع في شمال غرب الجمهورية العربية السورية والتي تتوزع ضمن أراضي ثلاث محافظات هي: حلب وأدلب وحماة، لوجدت منظراً عجيباً فريداً لن تجد له مثيلاً في العالم: منطقة جبلية، تتناثر فيها أشباح أعدادٍ هائلة من قرى ومدنٍ مهجورة، تبدو جدرانها عن بعد كأشباح معزولة عن القمم الجبلية كما وعلى السفوح أو في الوديان يتبدى لك المنظر ذاته.
وقد أطلق علماء الآثار على تلك المنطقة كلها اسم منطقة المدن المهجورة، أو منطقة القرى الميتة، أو القرى العتيقة، أو قرى المنطقة الكلسية الحوّارية، أو قرى كتلة جبال البيلوز.
ويمكن القول بأن هذه المنطقة هي منطقة فريدة، لافي سورية فحسب، بل وفي العالم كله؛ فقلما يتواجد في العالم منطقة تضم بقايا أثرية بهذا العدد، لا تزال قائمة "تحكي قصة تاريخ مجد بناه الأجداد ولا يعرف الأحفاد كيف يحافظون عليه: فنادق، ودارت، وكنائس، وأديرة، ومقابر ديرية وهرمية، وأبراج نساك، وأعمدة قديسين عاموديين، دوكاكين، ومعاصر زيتون وعنب، وحمامات، وخزانات ماء.
كما تتميز هذه القرى الأثرية بأنها بنيت وفق أسلوب معماريّ واحد أطلق عليه علماء الآثار اسم فنّ العمارة السوري، تميّزاً عن فن العمارة الكلاسيكية اليونانية والرومانية، وهي بهذا تستحق الحفاظ عليها لجمال عمارتها وجعلها محوراً لنشاطات سياحية تدر الخير العميم على القطر، وتثير إعجاب السياح بجمالها وعظمة بنيانها وفرادته.
كما أن أسلوب زخرفتها من الخارج والداخل أسلوبٌ فرديٌّ لا مثيل له في العالم، ومن حسن الحظ أن بناة حي الشهباء الجديد في حلب - وأغلبهم من أبناء هذه المنطقة - يتابعون تقاليد أجدادهم وفق أسلوب البناء والزخرفة القديم نفسه.
وإن من أبرز خصائص أسلوب الزخرفة الداخلية تلك السجادات الرائعة من الفسيفساء، التي تعكس مرحلة من مراحل تطور فن الفسيفساء، من الأسلوب الكلاسيكي بجماله الجسدي وعريه واعتماده على الأساطير الوثنية، إلى الأسلوب الديني المسيحي ببساطة وسذاجته الريفية واهتمامه بالجمال الروحي واعتماده على الرموز الروحية، والزخرفة النباتية والحيوانية، مما شكل مرحلة في الإنتقال إلى فن الفسيفساء الإسلامي.
وإن هذه المنطقة تحكي جزءاً مهماً من تاريخ الأجداد، وكيف أنهم حاولوا تخليد استقلاليتهم عن روما وعن بيزنطة، ونجاحهم في ذلك بعد انتصار المسيحية النهائي في القرن الرابع الميلادي.
ففي هذه المنطقة تطور بناء الكنائس من الكنيسة المضافة أو غرفة الإستقبال، من الكنيسة ذات الرواق الواحد إلى الكنيسة الكاملة ذات الأروقة الثلاثة (البازيليك أو الكاتدرائية)... وفيها نشأت الحياة الديرية التي انتقلت منها إلى أوروبا، والتي تجمع بين العمل والعبادة، وفيها نشأت حركة القديسين العموديين، ومن أبرزهم القديس سمعان العمودي، وحركة النساك الحباء، وفيها اشتدّ الصراع بين الكنيسة السورية الوطنية التي تهدف إلى الدفاع عن الوطن وعن هويته في وجه الأجانب، وبين الكنيسة البيزنطية الرسمية التي تحاول السيطرة على البلاد وانتحال تراثها الروحي والمادي.
وأخيراً فإن أهميتها تكمن في أنها النموذج الأول للمجموعات الديرية التي نشأت في أوروبا منذ القرن السابع، وانتشرت من شمال غرب سورية إلى القسطنطنية فالبلقان، فإلى غربي أوروبا مهد الدولة الكارولنجية التي اهتمت بنشر المسيحية.
من هذا المنطلق، يأتي هذا الكتاب والذي تكمن أهمية في سعي الباحث لتسليط الضوء على هذه المنطقة، منطقة "المدن الميتة" في شمال سورية، وذلك للبحث على إعطائها أهمية كبيرة، بعد أن نقص عدد هذه القرى الميتة بعد عجز المسؤولين عن حمايتها كلها، لوضعها في خدمة العلم والفن والسياحة، قبل زوال ما تبقى منها، ما لم توضح خطة وطنية شاملة لإنقاد ما يمكن إنقاذه، وكم ستكون الخسارة فادحة آنئذٍ. إقرأ المزيد