تاريخ النشر: 19/01/2016
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:في غرفته التي غلّفتها الظلمة، استلقى منير على السرير، بوجه تبرقش ببدايات لحية بيضاء ونظرات زائفة هرقة. حين وقفت حوّا أمامه أخفى وجهة في المخدّة. انسحبت ليلى من الغرفة، فبقيَت حوّا في الغرفة معه لوحدهما. جلست على طرف السرير، تستجمع صوتها الذي غار في روحها، قبل أن تعاتب منير: ...هيك يابو ليلى! بْتِسأَلِشْ عنّي؟! تجمّعت في عينيها بضع دمعات، ظللن عالقات على ضفاف جفنها. يعني ما سألتنيشْ ولا مرّة عن حوّا! أعطاها منير نصف وجهه، ببعض فضوله تخللت نظراته. حوّا هي أم جدّتها نايفة. سمّتها نايفة على اسمها.
حوّا كانت امرأة قوية، وكانت امرأة محبّة. وكانت جميلة؛ بل إنّ الروايات تؤكّد أنّها كانت أجمل بنات بيت محيسن. حين جاء الدرك العثماني لاقتياد زوجها ابراهيم للجندية، افتدته حوّا بمصاغها الذهبي، فاعتقوه. ثم جاؤوا ثانية بعد شهور، فساومتهم عليه، وأعطتهم ليرتين عصمليتين. لم يكد ينقضي عام حتى يلفتها نُذُرُهم المشؤومة من جديد. فقد كانوا في طريقهم لجمع عدد من رجالات البلدة. كانت حوّا حبلى ببطنها الأول، ولم تكن تملك مجيديّة واحدة. كان ابراهيم نائماً على الأرض حين دخلت عليه. فردت رجله، ثم بضربة واحدة، مسدّدة، هوت بالبلطة على ساقه، فقصّتها من الركن فما دون.
عندما وصل الدرك القرية بعد أيام وكان ابراهيم لا يزال غاطساً في الحمّى، قالت لهم حوّا إنّ حائطاً وقع على ساقه، تسبب في بترها. بكى ابراهيم ساقه التي ضاعت. قال لها إنّه لم يعد يصلح لشيئ، لكن حوّا اقنعته بأنّه يصلح لها وللحياة معها. قالت له إنّه أهون عليها أن يظل نصف بني آدم، من أن يأخذوه منها، ووعدته بأن تحميه وتداريه العمر كله. وحين فقد ابراهيم أولاده تِباعاً، ظلّت حوّا بجانبه، وساعدته في بناء البيت مع نايفة.
ثم حين استولى اليهود على القرية، حملت حوّا ابراهيم، الذي استحال في آخر أيامه عظماً ولحماً قليلين، على كتفها وقطعت به الطرقات الصخرية حتى نابلس. وإنت يا بو ليلى رح تظلّك جواة قلبي وعيني وعلى راسي من فوق! أشار لها منير، وسط خرير فهرّ دموعه الفائض، إلى ساقه التي سيخسرها قريباً. "مش مهم، إيش يعني؟! فداك! فدى عمرك!" قالت له. المهم أن يظل معها، المهم أن يعيش لها هي، المهم أن يبقى قلبه مشبوكاً بقلبها. فليأخذو ساقيه الاثنين، وحتى يديه. تريدُ رَجُلها حتى وإن كان نصف رجل. تريده شريكاً لبقية عمرها، حتى وإن لم يبق من عمره سوى يوم. تريده الرأس الشائب والعينين المفرغتين بالدموع العاطفية والقلب الطيب المحبّ، فيكون آخر ما تغمض عيناها على رؤيته. تحبّه، تحبّه ولو لم يتبقى منه سوى كمشة عظم ولحم، تحبّه الحب الذي لم تعرفه في حياتها، تحبّه الحب الذي يطوي بشاعات أيامها؛ تحبّه الحبّ الذي يجعلها تحبّ نفسها، ولو قليلاً؛ تحبّه هو ابراهيمها الذي ستودعه قلبها وروحها وعينيها وسوف تحميه من كل عوادي الزمن؛ تحبّه الحب الذي لم تتخيل يوماً أن تحسّه تجاه رجل وتتجرأ أن تقوله له، بحبك والله بحبك! حتى إذا مرق الصيف ولملم عناقيده فيما ظلّ الشوق متأججاً، عاد منير إلى عمله، ركّب ساقاً جديدة، وطوّع سيارته لها، واكتسَ طوب بيتها بالقصارة.
وقفت حوّا عند مدخل البيت، الفائح بلإسمنت غير الجاف تماماً، يداعب هواء تشرين الذي تجري تياراته من فتحات النوافذ غير المركّبة نهايات إيشاربها، بينما تمسك أطراف فستانها بيديها. "خلال شهرين بجهز البيت، وبعدين بنتزوج" قال لها منير وهو يمسح بكفّه القصارة الخشنة.. قبل أن تلفت ناحيته مؤيدة: "أكيد في الشتوية اللي جاي!" ثم خطر ببالها فجأة ذاك السؤال الذي لطالما حيّرها: "ايمتى عرفت إنّك بتحبني؟" هي لحظة هو نفسه لا يستطيع أن يصفها، وهو نفسه لا يفهمها. لكن ما يعرفه أنّ كلّ شيئ بعدها لن يكون كما قبلها.
بالنسبة لمنير، من يومها ضحك اللوز. كأن الليل كله نزل مرة واحدة، فلم يُبقِ أي فرصة أو احتمال كي تليّل أكتر. رائحة الأرز بالشعيرية المحمصة بالسمن تسمّك هواء المطبخ… تسكب البامية كلها في وعاء اخدودي كبير… يشتات بصرها إلى كيس المخمل. تمسح يديها من أثر بخار البامية بجنبيها. تفتح الكيس الموضوع على طاولة القص، تدسّ حواسّها فيه، لكن الطرق البطيئ على الباب ينتزعها من مخملها…"طرق بطيئ على الباب ووافد موت سريع لا يمهلها.. لا يمهل آمالها.. يغتال حلمها في اثبات اخلاصها لمنير حتى لو استحال.."كمشة عظام".. في تلك الليلة التي انتزعها من مخملها ذاك الطرق البطيئ على الباب.. يدخل أخوها عايد يتنبه ابنها قيس وهما يرتديان نظرات جامدة كجمود مشاعرهما الانسانية..
يأخذها ابنها بجديّة عاطفتها الصادقة لمنير بعد استجوابه لها.. جسدها بردان، تعبان، أتعبه العمر وناس العمر.. تسحب قطعة المخمل في الكيس وتلفّها حول كتفيها، متهدّلة كموج فرق صدرها وحضنها لكن قصف الريح أعتى وأشرس مما يستطيع جسدها الملتحف بالمخمل الليلكي، ذي النشنشة البكر ورائحة المسرات، أن يصدّه.
يمزّق صراخ الليل رابعة الليل: حوووو! تقف حوّا، فيتدحرج، الموج الليلكي، المسكين على الأرض، متكسّراً عند قدميها. تحاول أن تتحرك، لكن ساقيها لا تريدان أن تمشيا… حووو حووو! حوووو! "جاي يمّه، جاي!" ترد عليها. لكن صوتها يبدو ضافراً كأنها تتكلم مع نفسها…
تحاول حوّا أن تستخرج الكلمات من فمها، لكن الأحرف تلتصق في سقف حلقها تنظر إلى قيس. تراه واقفاً، وجهه كأنه ينضح ماء، يده تقبض على عدس أسود صغير. تنزلق يدها فوق بطنها، تغوص في سائل ثخين. تفتح كفّها، فترى دماً أغزر كثيراً من الدم الذي ينفر من أصابعها.. صليل ماء يملأ أذنيها، يتداخل مع صراخ رابعة، الذي يأفل تدريجياً. أذناها تُسدّان تماماً، وعيناها تسدران في بياض غامقٍ.. سحيق…[…]. إقرأ المزيد