تاريخ النشر: 11/10/2007
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:لقد مرت أكثر من سبعة عقود منذ أن نشر هذا الكتاب لأول مرة على هيئة تقرير من أحدى وعشرين مقالة في جريدة "لي بتي باريسيان" الفرنسية، وبالتحديد في الفترة من أكتوبر-نوفمبر 1930م تحت عنوان "في البلدان الحارة لصائدي اللؤلؤ" ثم صدور نسخة الكتاب بعنوان "صائدوا اللؤلؤ" في يناير 1931م، ...وذلك قبل أن ينشر مترجما إلى العربية، وهي فترة زمنية طويلة كان فيها بعيداً عن متناول قراء العربية، رغم قيمته الأدبية والتاريخية الكبيرة بالنسبة للقراء العرب، وبالأخص الباحثين والمهتمين منهم بالتاريخ والتراث. ومن المفارقة الغريبة أن الترجمة العربية نشرت أولاً على هيئة 21 حلقة في جريدة "الوقت" البحرينية في أبريل 2006م، قبل أن تصدر النسخة العربية للكتاب في 2007م، لكن الاهتمام الشديد الذي لقيته الحلقات المنشورة في الصحيفة البحرينية والاستفسارات التي انهالت على مقرها عن الكتاب من بلدان الخليج المجاورة، كانت حافزاً للعمل على إصداره بين دفتي كتاب مطبوع، تلبية لطلبات القراء وإرضاء لشغفهم في اقتناء هذه الوثيقة الهامة، الأمر الذي ساهم في إثراء المكتبة العربية بوثيقة نادرة تؤرخ لمرحلة هامة من التاريخ السياسي والاقتصادي للمنطقة العربية، لا سيما إذا أخذنا في الاعتبار أن الوثائق الفرنسية عن الغوص واللؤلؤ في المنطقة العربية نادرة جداً، مما يضفي على هذه الوثيقة أهمية إضافية إلى جانب أهميتها التاريخية، بل قد تكون هذه الوثيقة هي الأبرز بين الوثائق الفرنسية، التي تناولت موضوع الغوص واللؤلؤ في المنطقة، وهي خلاصة تجربة شخصية ميدانية مباشرة للمؤلف، بمعنى أنه "غاص" بنفسه في الواقع المعاش للغواصين واطلع عن كثب على أسرار حياتهم وخفايا مهنتهم، ومن هنا جاءت تجربته الذاتية ثرية بالملاحظات والاستنتاجات الشخصية. فبالنسبة إليه، فإن البحث عن الحقيقة في حياة صائدي اللؤلؤ وظروف عملهم هو هدفه من هذه الرحلة الشاقة إلى بلدان صائدي اللؤلؤ، فاهتمامه انصب على الغواص ذاته ومصيره وقدره، كما قال ذات مرة "لصائد لؤلؤ ماهر": "أنت ذاتك؟.. ما يهمني هو أنت وليس بضاعتك؟"، مما يعني أن الحلية التي تتزين وتتباهى بها شريحة من الناس لا تعنيه شيئاً، ومن هنا جاء استنتاجه القاطع عن اللؤلؤ بأنه مجرد "مادة عبثية للزينة"، وفرح طفولي للنساء، وعذاب قاس للرجال".
لقد شد هذا الكاتب والصحافي المغامر الرحال إلى منطقة تقاسمت فيها القوى الاستعمارية النفوذ والسيطرة وأحكمت قبضتها عليها. فأينما ولى وجهه في أنحاء المنطقة فهو عرضة للمساءلة والاستجواب، وموضع للشك والارتياب، ومدعاة للطرد والإبعاد، بل إنه وجد نفسه أينما ارتحل في أرجائها، محاطاً بشبكة من العملاء السريين والمخبرين الغامضين، ومن هنا أطلق تأوها عميقاً وألما دفيناً أشبه بنأم الغواصين عندما هتف صائحاً "ويل للطائر الصغير الذي ينطلق مغامراً في سماء الشرق تنقض عليه الجوارح التي تنتف ريشه حتى آخر ريشة من بدنه"، وهو ألم يعبر في واقع الأمر عن محنة أبناء المنطقة بأقوى مما يعبر من محنة الزائر العابر أو المتجول في أنحائها، لأنها محنة ناجمة عن تقسيم المنطقة إلى مناطق سيطرة ونفوذ بين القوى والاستعمارية المستميتة في إبقاء هذه المنطقة مقدراتها تحت هيمنتها. ومن هنا فإن طرق المنطقة ليست سالكة ومساراتها ليست مأمونة، بل هي محفوفة بالمخاطر، وعليه أن يتصرف بحنكة لكي يتخطى كل عقدة وعقبة تعترض طريقه ليصل إلى ضالته، وهي مصائد اللؤلؤ في الخليج العربي والبحر الأحمر، ليغطي أخبار أولئك البؤساء المساكين "المحكوم عليهم بقصر العمر وبالأعمال الشاقة تحت الماء وفي وضح النهار"، والذين يصابون بالعاهات الدائمة وتفتك بهم أمراض المهنة وتهاجمهم الأسماك الخطرة في أعماق البحر، وسرعان ما يشيخون في سن مبكرة جداً، حيث نظام "السلفية" هو القانون الذي يحكم مغاصات اللؤلؤ، والذي لا يستطيعون خلاصاً منه، إلى أن تنتهي حياتهم العملية وهم في مقتبل العمر، حيث تتراكم عليهم الفوائد وتتضخم الديون ولا يستطيعون سدادها إطلاقاً، ويرث أبناؤهم ديونهم أحياءً وأمواتاً، وغالباً ما ينتهون إلى التسول أو الفناء المبكر.
وقد حدد هذا الكاتب والصحافي الفرنسي الشهير وجهته منذ أن راود خياله مشروع البحث عن صائدي اللؤلؤ، إنه قاصد "موضع تكسوه الأصداف ويكلله تاج الشرق، إنه الخليج العربي.. حيث ترقد على ضفاف مياهه الفيروزية أحد الجزر أشبه بسلة أميرية تظللها قبة من السحب الوردية، إنها البحرين الشهيرة.. الجزيرة الساحرة"، ووطد العزم أن يمضي قدماً في مغامرته الكبرى، سالكاً طريق المتاهة على أمل أن "يرسو عند مطلع فجر بنفسجي جميل على شاطئ البحرين!"، التي وصلها بشق الأنفس ليجدها جزيرة تطفو على منجم من الثروة الدفينة في قيعان البحر، حيث مغاصات اللآلئ التي تزدرد الماء العذب، فيضفي عليها صبغة جميلة، فيما يشرب الناس على ظهر اليابسة الماء المالح، الأمر الذي أثار حنقه ودهشته، كما وجد اللؤلؤ فيها ملكاً والجميع في خدمته. فالجزيرة هبة اللؤلؤ، إذ من دونه لا توجد تجارة، ولا مضاربات، ولا استهلاك، حيث يشكل المورد الوحيد للخزانة. لكنه منذ اللحظة الأولى، التي وطأت فيها قدماه جزيرة اللؤلؤ، شهد إرهاصات الكارثة الاقتصادية المحدثة بصناعة الغوص في منطقة الخليج.
ومن المدهش أن زيارة "ألبير لوندر" للبحرين جاءت قبل سنتين فقط من اكتشاف أول بئر للنفط فيها، وذلك عام 1932 حيث بدأت صناعة النفط الجديدة تستوعب أعداداً كبيرة من العاملين في صناعة الغوص بعد تدهور هذه الصناعة، نتيجة كساد تجارة اللؤلؤ الطبيعي جراء مزاحمة اللؤلؤ المستزرع. ومن هنا تبرز أهمية الكتاب كوثيقة تؤرخ لمرحلة فاصلة في التاريخ الاقتصادي لمنطقة الخليج، لأن زيارته جاءت مع اقتراب أفول حقبة اللؤلؤ وقرب حلول الحقبة النفطية والتي لا شك أحدثت تحولات هامة على أنماط الحياة وعلى علاقات الإنتاج في المنطقة.
لكن أهمية الملاحظات والاستنتاجات التي توصل غليها "لوندر"، من خلال معايشته لواقع لصائدي اللؤلؤ في المنطقة، تكمن في كونها نابعة من رؤية معينة إزاء هذا الواقع، وطريقة التعاطي مع هذا الواقع، فقد تعاطي معه وفق رؤية إنسانية شاملة، حيث لم يتعاط مع مهنة الغوص على اللؤلؤ، كما فعل العديد من المؤرخين والرحالة، كصناعة أو تجارة أو مورد للثراء الفاحش، من خلال الصفقات التي تبرم وتدر أموالاً طائلة على المتعاملين باللؤلؤ من تجار وسماسرة، بل تعاطى مع هذه المهنة الخطرة من خلال العواقب والآثار المدمرة التي تتركها على حياة ضحاياها وصحتهم، والتي لمسها بنفسه وفزع من أضرارها المادية والمعنوية على مصائر أولئك البائسين، الذين يعملون في ظروف عمل قاسية للغاية أشبه بالأرقام "وأحسنهم حالاً لا يعمر طويلاً". ومن هنا توصل إلى استنتاج عام وقناعة تامة بأنه "في أعماق البحر يوجد شقاء أكثر من اللؤلؤ". إقرأ المزيد