تاريخ النشر: 01/08/1995
الناشر: دار الهلال
توفر الكتاب: نافـد (بإمكانك إضافته إلى عربة التسوق وسنبذل جهدنا لتأمينه)
نبذة المؤلف:هذه مذكرات قرية أرويها، لا أضيف إليها واقعة ولا أخفيها. منها ما رواه المؤرخون ومنها ما تحدث به المعاصرون، وكنت على أكثرها شهيدا فحفظته الذاكرة. والذاكرة -يا سادة يا كرام- كالبئر الغائرة أكثر ما يبقى فيها ما ألقى أولا من قديم الذكريات، أما ما يضاف إليه وقد امتلأت بنفايات الفكر ...أو الحس فإن لم ينكر لا يذكر كأن لم يحدث بالأمس، فما أرويه لكم هو هو كما كان محفوظا فى الذاكرة بعد تدقيقه وتوثيقه بما حفظته الذاكرة الجمعية لجيلين من الاحياء، لا يعدو حظى منه ما تفرضه أصول الصناعة فى فن الصياغة وإعادة توزيع أسماء الاماكن والرجال والنساء..
ولقد كنت أتلقى من القرية حكايتها حين لم أكن غير جزء من وجود القرية ذاتها. بعده زاحمت القرية فى روايتها حين لم تعد القرية إلا جزءا من وجودى ذاته. غادرتها إلى "البندر" حيث المدرسة الابتدائية فلم أكن لألتقى بالقرية إلا يوما من كل سبعة أيام، ثم إلى المدينة حيث المدرسة الثانوية فلم أكن لألتقى بها إلا شهرين كل عام. ثم العاصمة حيث الجامعة ولم أزل، ففرقت بيننا الاعوام إلا فترات قصيرة متفرقة. ولقد تلقيت من كل مجتمع لقيته حكايته فاجتمع لى منها خليط من الخبرات الفائقة لو أردت لأنشأت منها مذكرات شائقة، إلا أنى لا أريد. فقد تعلمت من علم النفس وعلمائه أن المذكرات الشخصية أو السير الذاتية لا يمكن أن تكون صادقة ولو كان أصحابها من الصادقين.
ذلك لأنها، كما قد يعرف أصحابها من أنفسهم، استجابة لغريزة انسانية مسيطرة: النزوع إلى البقاء بعد الفناء، خوفا من الموت فحرصا متينا على الخلود، فحينما تشعل الشيخوخة الرأس شيبا تضئ لبصيرة صاحبها المستقبل القريب فيكاد يبصر حامل منجل الحصاد يقترب. هنالك تستعر حمى الخوف من الفناء فلا يستطيع أغلب الشيوخ مقاومة الرغبة فى البقاء فيعكفون على المذكرات ينشرونها كتابة أو شفاهة، ثم تزداد الرغبة إلحاحا مع تقدم العمر يساندها إلحاح أصدقاء لا يكفون منذ اشتعال الرأس شيبا عن قول كالنذير: أكتب.. أكتب.. فيقتنع، أو يقنعونه، بأن قد آن الأوان.. ليتكلم.. وكثيرا ما يأتى كلامه إعلانا عن نهايته، سواء امتد به العمر أو قصر..
فيتأمل الشيخ ثم يسأل نفسه كيف أكتب ولا أكذب.. من هو هذا الراوى حتى يكتب مذكراته، منذ أن غادر القرية ليحيا الحياة وحيدا بعيدا أصبح انسانا من طبقات بعضها فوق بعض مما اكتسبه من خبرات، بعضها ممزق وبعضها مزوق. يرى كل واحد من الناس ما يختاره منها فيحسبه هو. فيعجب بعضهم ويشجب كثيرون ويغضب آخرون، ولا يملك هو من ذاته إلا الهيكل الاساسى لشخصيته الذى ألقيت عليه تلك الطبقات اضافة إليه وسترا له. إن كان لابد من الكتابة فلنرفع عنه تلك المكتسبات لنعرف منه، على الأقل، علة ما يبدو فيها من نتوءات وفجوات وما يخترقها من ثغرات هى على تكوين هيكله مؤشرات.
فوجدته عاريا كما كان فى القرية.. إذن، فهذا الراوى ليس إلا بناء على أساس من صنع القرية، فأولى وأجدى أن يكتب مذكرات القرية. ثم يقدمها اعتذارا لكل الذين أغضبهم واعترافا لكل الذين أرضاهم بأنه لم يقصد قط إغضابهم أو ارضاءهم. انما هى القرية التى تسرب من مسامها.. وكل ما عون ينضج ما فيه.. إقرأ المزيد