تاريخ النشر: 01/01/1988
الناشر: دار النفائس
نبذة نيل وفرات:(لا حكم إلا لله) قالها ابن ملجم وهو يرفع سيفه ليقتل أشرف من عرفته الدنيا وأعفها وأطهرها، بعد رسول الله وصحابته الخلفاء الراشدين.
ومضى الخلفاء الراشدون إلى ربهم وقد حملوا أعباء العرب المسلمين، ووطدوا لهم دولتهم، ونشروا لهم رأيتهم فوق الأرض.
وجاء أمير المؤمنين معاوية، فاجتهد للمسلمين، وقد هاله ما ألى ...إليه أمر العرب المسلمين من تفرق كلمة ومن تمزق شمل، فجعل الحكم وراثياً، عسى أن يحقن بذلك دماء المسلمين، لا سيما بعد أن كثر الطامحون، وبعد أن تعاظم خطر الطامعين. غير أن البنيان الذي جهد معاوية بن أبي سفيان في إقامته طوال عشرين سنة، حتى بات متماسك البنيان، وطيد الأركان، ما لبث أن تكشف عن ضعف خطير في مواجهة الأحدث، فلا الخوارج زالت دعوتهم الباطلة، ولا الطامعون زالوا من الوجود. ولم يلبث يزيد بن معاوية طويلاً في الحكم، فقد مضى بسرعة، وخلف في الحكم ابنه معاوية الذي برهن على أنه أضعف من أن يصمد لجائحة الأحداث، فاعتزل ومات.
وتمزق العالم العربي الإسلامي بين ثلاث مراكز للقوى: فهذا عبد الله بن الزبير في المدينة وقد بايعه أهلها، وهذا عبد الرحمن بن جحدم وقد خرج بمصر وبايعه أهلها، وهذه الشام وقد فرغت ممن يتولى أمرها.
وقفز مروان بن الحكم في قلة من قومه وأنصاره، فوطد مركزه في الشام، وأعاد فتح مصر، ومضى عن الدنيا، ولما يحقق هدفه، فلا وحد للعرب المسلمين دولتهم، ولا قضى على الفتن المتفجرة في أمصارهم، غير أنه ترك ابنه (عبد الملك) وقد نضج خبرة إلى كفاءته. فمضى عبد الملم يعالج الأمور بحكمة بالغة، وبحزم صارم، وبتناوب بين اللين والشدة، بين الرفق والبطش، حتى دانت له دنيا العرب المسلمين وأسلمت له قيادها بعد امتناع.
جابه عبد الملك في حياته القيادية عقبات وصعوبات لم يكن أقلها ثورات الخوارج، ولم يكن أقلها مجابهته لعبد الله بن الزبير وأخيه مصعب، ثم ثورة المختار. غير أنه عرف كيف يتعامل مع الرجال، فاختار للقيادات أكفاءها، ولحمل الرايات أصحابها، فكان ممن برز أسمه في عهده: الحجاج بن يوسف الثقفي والمهلب بن أبي صفرة وقتيبة بن مسلم الباهلي وحسان بن النعمان.
هكذا كانت حياة عبد الملك بن مروان حافلة بجلائل الأعمال، غير أنها كانت في الوقت ذاته موضع جدل ومحور خلاف، فقد استدعى إخماد الفتن بالضرورة اللجوء إلى العنف، ولكن هل كان أمام عبد الملك -وقادته- خيارات أخرى؟
لقد عمل الحجاج على قصف بيت الله الحرام بالمجانيق، وقد اعتصم به عبد الله بن الزبير طوال سبعة أشهر، فهل كان باستطاعته القضاء على الثورة بغير العنف؟
وعمل الحجاج على تعقب الثائرين والخوارج، فأغرق البلاد بحمامات الدم، ولكن هل كان باستطاعته أن يفعل غير ذلك بعد أن أتعبت الاضطرابات فيها الحكام والمحكومين على حد سواء؟
القتل أنفى للقتل، تلك قاعدة من قواعد الحكم، غير أنه لا بد من القول بأن لجوء عبد الملك -وقادته- إلى العنف، لم يكن إلا سهمهم الأخير، فقد كان اللجوء إلى العنف هو المرحلة النهائية -وبصورة مستمرة- بعد مفاوضات شاقة لتجنب سفك الدماء.
وعندما كان خيار الحرب يبقى هو الخيار الأخير فقد كان عبد الملك وقادته يلجؤون إليه، بعزم ثابت وتصميم راسخ إلى أن يتحقق الهدف: (الطاعة والجماعة)، ثم يلتفت عبد الملك وقادته لتضميد الجراح، وإعادة البناء السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعمراني، فكان عهده عهد البناء المتكامل لبنيان الدولة العربية-الإسلامية.
ومضى عبد الملك للقاء ربه يحاسبه ويثيبه بموازين الحق والعدل التي لا يداخلها شيء مما تعرفه الدنيا من الخطأ أو المحاباة.
ومضت الدولة الأموية، غير أن تجربة عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص ابن أمية ستبقى أبداً من منارات الدنيا في الإدارة والحكم. إقرأ المزيد