أبو تمام فنه ونفسيته من خلال شعره - دراسة ونصوص
(0)    
المرتبة: 177,815
تاريخ النشر: 01/01/1989
الناشر: دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع
نبذة نيل وفرات:وفد أبو تمام على الشعر ، وكان قد أوفى إلى مراحله المتقدمة ، ولم يدع الشعراء فيه " متردّماً " ولم يغادروا معنىً إلا واستنفذوا مجالاته أو احتمالاته . ولقد كانت المباراة الشعرية على المعاني وأبعادها وأساليب التخريج جارية في سنّة الشعر وعموده . وأبو تمام ارتادها وراودها ، ...ولم يَسغْ أن يكون لاحقاً فيها ولا تابعاً ملحقاً . ومن البَيّن ، عبر ديوانه الحاشد ، أن أبا تمام كان يقحم المعاني والألفاظ ، ويتذوّقها ويلوكها في مذاقه الخاص به ، ويستطيب نكهتها ويستمرئها ، أو أنه كان يمجّها ويأنف منها ولا تقع في نفسه ويحس أن لها طعم التفاهة والقصم والإرتياد اليسير والإنسحاب على أذيال الآخرين . كان أبو تمام يتلقف المعاني ويخوض فيها ويُسَرّحها ، وإن كان التشريح يتحول إلى شَرْح . وإذا كان ارسطو كان قد قال بالتأويل والإحتمال ، فإن أبو تمام استنفد غاية ذلك ، إلا أنه لم يُفْرد المعنى الواحد لذاته وبذاته ، بل إنه مازج المعاني ووالدها واستخرج منها معاني جديدة من هذا التزاوج والتعويد والتوليد ، والعصر ذاته كان عصر مزج وتزويج وتوليد . ومن هنا كانت إبداعيته وهي ابداعية ربما كانت مستفادة من طبيعته ومن طبيعة التي عرفت الجدل والنقاش ومنازعات الأشعرية والمعتزلة وكتب الفلاسفة على التأويل والتعليل وإنهاك المعاني والعثور على الصلات الخفية بين أمور وأحوال وتجارب ليس من صلة ظاهرة ومبذولة تؤلف فيما بينها . ومن هنا فإن عبقرية أبي تمام كانت تقوم ، في معظمها ، على اكتشاف تلك الأسرار الهاجعة في قلب النفس والوجود ، وفي تقريب المعاني المستقلة والمفردة بعضاً إلى البعض الآخر ، وكان يشدها في وثاق نفسي روحياً في وثاق ذهني ، ويحكم الوحدة فيما بينها ، موقعاً ذلك كله عبر لغة وإيقاعات من الوزن والعبارة تدعك تحسّ أن عبقرية أبي تمام كانت مماثلة ، نوعاً ما ، لعبقرية الفرزدق في الخلق عبر صياغات التعبير وإيقاعات العبارة وروح اللغة واللفظة المفردة والمؤلفة . ولقد كانت الجهبذة اللغوية عاملاً فعّالاً للتعبير والتجسيد لديه . وفي حين يخيّل إليك أن حشداً من الإيقاعات والعبارات يزحف عبر شعره وكأن اللغة كانت تتولد به ومعه ، وكأنه كان يشتقّ الألفاظ من معدن أو كأنه يُبْرئها برءاً حاداً من توحّد المعاناة الذهنية والنفسية عنده ومعاناة اللغة والتحامهما في كيانه فضلاً عن غيابه . ولقد تبيّن للناقد أن النقّاد القدماء كانوا يتعقّبونه على الهنات اليسيرة وعلى الجزء المبستر والطارىء الخاطف الذي لا يُعَوّل عليه ، ويفضون من تلك التجارة الكبيرة الرائدة والحيّة في قصائد الطبيعة والنفس والكون ، وتكون اللغة في تراكيبها وإيقاعاتها مادة حيّة تواكب الإبداع ، تولّده وتتولد منه سواءً بسواء . والأبعاد التي أدركها أبو تمام من أسرار الوجود ومن حقائقه الشعرية الكامنة ، قلّما قُدّرت لسواه . فالشعر كان يجري في قصائد أبي تمام كما يجري الفرات في قصائد النابغة والأعشى والأخطل عبر طوفانه وسيلانه الزاحف بالماء والخصب ومعها الحصى والصخور والأتربة والأشجار وكل ما يقع في سبيله . إنه نوع من تفجّر الينابيع النفسية الداخلية التي قد لا تتعفّى من الزبد والغثاء والأقذاء ، إلا أن الصفة الأعمّ في ذلك ، أنه يمثل ما كان " برغسون " يدعوه الإندفاع الحيوي ، وهو مادة الخلق الفني الدائم ومادة الإيداع ومن دونه تركد المعاني وتستقر في أسرّتها وتستظلّ الأفياء الخاملة والمتعفنة ، فافتح من الفاتحين الأشداء ومن الغواصين الذين ينفذون إلى الأعماق ومن الذين عرفوا أن أبعاد الشعر لا تنتهي وأن التردّم هو متردّم في ظاهره ، وليس متردّماً في داخله وأعماقه . وبعد ، فإن هذه الدراسة النقدية لشعر أبي تمام هي بين يدي القارىء ، وله أن يحكم بحكمه ، ولا بد من التنويه بأن هذه الدراسة ليست من الدراسات التي تنحى المنحى التاريخي ، وهي لا تفيد من التاريخ الأدبي في العصر والبيئة والسيرة ، إلا ما كان ضروراً لإضاءة جوانب حميمة من واقع الشاعر والتي قد لا يفهم شعره ولا يقوَّم تقويماً صائباً من دونها . والناقد هنا يعوّل على القيمة النفسية لهذا الشعر ، والتي تمثل الرصيد الأخير والمآل النهائي لكل أثرٍ فني . إقرأ المزيد