تاريخ النشر: 20/05/2019
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:" إسمي بستان ! من يعرفونني جيداً ، وهم قلّة ، يسمونني " كاهنة الأبيض والأسود " ! الآخرون يرونني غريبة الأطوار . لو قُدّرَ لكاتب أن يكتبني لوصفني بالمرأة الحوراء أو ذات الشعر الفاحم والملابس السوداء ، إلى آخر هذه الأوصاف المحدودة بالظاهر ، غير القادرة على التقاط ...ما يتأجج بداخلي . لن يتمكن أحد من اكتناه ما أخبئه ولا ما أقدر عليه ، كما لن يكون على علم بخفايا الوقائع التي جرت قبل قرون ولها نذرت حياتي ، لذا كان عليّ أن أكون الكاتبة ، أو بالأحرى الحكاءة المنوط بها ملء ثغرات الحكاية ولضم أجزائها منا ، حكاية لست بطلتها ، لكنها لن تكون من دوني . في العام الحادي عشر من الألفية الثالثة ، وفي شقتي المطلة على نيل الزمالك ، انكفىء على التدوين بلا كلل ، عالم قديم ينهار في الخارج وأنا مشدودة إلى كلمات مراوغة لا تكف عن التسرّب من بين أصابعي ، كسحائب صيف عابرة ، تمر بذهني مشاهد متتابعة من أزمان مختلفة أقتنص بعضها ، ويتخلص مني بعضها الآخر . أراني طفلة فوق جبال الـ " ديلم " في ستينيات القرن العشرين ، أعدو خلف أبي في تسكعه الصباحي وهو ينشد أبياتاً للرومي أو العطار أو حافظ . يسبقني بأمتار ثم ينتبه إلى تأخري عنه ، فيقف منتظراً إياي بصبر ، وبخار الماء يتصاعد من فمه . ألحق به ، فيجلسني فوق صخرة مجاورة ويحكي لي ، كما كل مرة ، شذرات من خبر موطننا الأصلي . رغم البرودة الشديدة يدبّ الدفء في جسدي ، وأكمل له ما يغفله من تفاصيل ، فيعانقني سعيداً . " نحن غرباء أبديون " ! كان يقول كل مرة يخرج فيها تلك الرقوق والجلود العتيقة من خزانته السرية ويروح ينبّه عليّ ألا أبوح بسرها لأحد ، ساهياً عن حقيقة أني أكاد لا أحادث أحداً غيره . أعده بهذا ، فيبدأ في تعليمي كيفية فك شفرة ما بها . ينقل لي ما تعلمه من أبيه ، يهمس لي بأن السلسلة يجب أن تتوقف عندي ، أسأله عما يعنيه ، فيرد بأن ما لديه من علامات ، ينبئه بأني الكاهنة المنتظرة ، ولا يزيد في الشرح . أتذكره الآن بينما أجلس في بيتي القاهري ، فتحضرني روائع جبل " ألموت " ، ونباتاته ، أكاد أبصر السفوح المكسوة بالخضرة والقمم المكلّلة بالثلوج والسهل المنبسط محتضناً القرى المحيطة بجبال الديلم . ذات يوم بعيد أشار أبي إلى ما أطلق عليه " أطلال قلعة ألموت " وغاصت ملامحه كلها في أسى لم أدرك أسبابه ، كان يقف منتصباً مبالغاً في شد جسده ، وهو يتأمل البقعة التي يصوّب نحوها سبابته ، لم أنظر إليها ، بل تعلقت عيناي بوجهه الأليف بلحيته الخفيفة وشعره الرمادي . انحدرنا نحو الأسفل ، وبين برهة وأخرى كان يلتفت إلى الوراء ممعناً النظر في أطلال لم أكن – إلى ذلك الوقت – أعرف عنها شيئاً ، بعدها بيومين أجلسني بجانبه تحت شجرة كستناء ، وحكى لي عن حسن الصبّاح وطائفة الحشاشين . قال أن لا شيء يبقى سوى الحكايات ، تنتهي الذاكرة بموت صاحبها ، وتبقى الحكايات كذاكرة بديلة متوارثة . دربني مبكراً على السرد والكتابة ، مسرّباً لي تدريجياً لمحات مما ينتظرني من مهام ، أسمعني مئات الحواديت المستلّة من دهاليز التاريخ الغابر ، وأنشد لي آلاف أبيات الشعر . كنت التهم ، بتشجيع منه ، ما يقع تحت يدي من كتب . اصطحبني تقريباً إلى كل مكان ذهب إليه ، معه زرت قبر عمر الخيام المحروس بالورود وقلوب المحبين ، وخطوت في أروقة وأزقة مدينة مشهد المقدسة ، وتجولت بين نيسابور وشيراز وأصفهان . " هذه مدن يتنفس فيها التاريخ ويعيش ، ومع هذا يجب ألا تنسينا وطننا المشتهى " ! يقول ، ثم يغمض عينيه ويغرق داخل ذاته ، فيخطر لي أن الوطن المحلوم به ليس سوى فكرة " في الثامنة عشرة من عمرها ، غادرت بستان كاهنة " الأبيض والأسود " شبه مجيرة لتصميم والدها أن مكانها لم يعد حيث تقيم ، وأن عليها بدء رحلتها وحدها بحثاً عن حكاية اختفت من حكايا ألف ليلة وليلة هي حكاية " جيل الزمر " التي تحكي حكاية ياقوت إبنة ملك الجبال والأحجار الكريمة المقيم في قاف .. ووحدهم النسّاك والمتصوفة المتحدرون من جبل قاف ، والذين تاهو – إثر زلزلة – هم ونسلهم في بقاع الأرض المختلفة ، هؤلاء الذين ابتعدوا عن إغراءات الحياة ، واختاروا عد عقود من التيه الاستقرار في الجبال والمرتفعات طلباً للسكينة ، وحدهم هؤلاء من حملوا عبء رد الحكاية لأصلها ومن ثّمَّ إعادتها لـ " الليالي " .. وكان الناسك الوحيد العائش بجبال الديلم والذي كان يعتبر الأكثر دراية بسيدة إبنة الملك ياقوت ، خاصة أن بحوزته مخطوطاً نادراً يحوي علامات وإشارات – معظمها ملغز – تقود في حالة النجاح في فك شفراتها ، للناقص من تفاصيل " جبل الزمرد " وتساعد على عودة بطلتها .. وكان مقتنعاً أنها ، إبنته الوحيدة ، بستان البحر ، أو " بوستات دريا" – كما اعتاد مناداتها ، من سينجز هذه المهمة العصية على الإنجاز منذ قرون . [ ... ] وكأن سحر حكايا ألف ليلة وليلة يعود في إيقاعاته الغامضة متألقاً في هذه الرواية .. تأخذك الروائية إلى تلك العوالم متنقلاً بين الماضي والحاضر ... بين الحقيقة والخيال بحثاً وراء فك طلاسم اللعنة التي لحقت بياقوت .. فتجعلها تنبعث من رمادها بعد أن القت عليها الأخيرة ببلوفيا تعاويذ فأحرقتها بسبب وقائع غرام جرت في مغارة بأرض الحنيات ... كانت بستان هي كاهنة الأبيض والأسود .. هي الروائية بخيالاتها ورحيلها وراء عالم زاخر بالأسرار .. تحطّ وتقارئ رحالك حيث حلّت .. تراقب الأحداث عن كثب ... لتحس بأنه ما زال لألف ليلة وليلة ... ليالٍ وليالٍ ما زالت الذائقة الروائية شغوفة بها ... مسترسلة في إبداعات أسرار وأساطير على الدوام . إقرأ المزيد