تاريخ النشر: 01/01/2015
الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع
مدة التأمين: يتوفر عادة في غضون أسبوعين
نبذة نيل وفرات:إن الكلام ليسير قدماً في إتجاه واحد، وهذا هو قدره، فما قد قيل لا يستطيع أن يستعيد نفسه، إلا إذا إزداد: فالتصحيح، إنما يكون هنا، وبشكل غريب، إضافة، فأنا حين أتكلم لا أستطيع أن أمحو ما أقول أبداً، كما لا أستطيع أن اسمه ولا أن ألفيه؛ وإن كل ما ...أستطيع فعله، هو أن أقول: "ألقي، وأمسح، وأعدّل".
وبإختصار، فإني أتكلم أيضاً، وإني لأسمي هذا الإلغاء الفريد عن طريق الإضافة "ثفثفة" والثفثفة رسالة مخففة مرتان: إننا تفهمها من جهة أولى، فهماً سيئاً، ولكن مع الجهد، من جهة أخرى، فإننا نفهمها على كل حال.
إنها فعلاً، ليست ضمن اللغة، ولا هي خارجها: إنها هسهسة لسانية، وإنها لتقارب بمحرك يجعلنا، بعد عدة محاولات لتشغيله، نسمع بأنه ليس سيئاً.
وهذا هو، على وجه التحديد، معنى الإخفاق، ومعنى الإشارة الصوتية للفشل، والذي يترك جانبه في الشيء، فثفثفة (المحرك، أو الذات)، إنما هي خوف في النتيجة: إني لأخشى أن يتوقف السير فجأة... إن الهسهسة هي الصوت الدال على حسن سير الشيء، وثمة مفارقة تنتج عن ذلك: إن الهسهسة لتشير إلى صوت محدد، صوت غير ممكن، صوت الشيء الذي، لا صوت له في حال تنفيذه كاملاً.
وإن فعل هسهس ليجعل تبخر الصوت نفسه مسموعاً: فالصوت الرقيق والمشوش، والمرتجف يستقبل بوصفه إشارات لإلغاء صوتي؛ إن الآلات السعيدة، إذن، هي الآلات التي تهسهس... واللغة هل تستطيع أن تهسهس؟...
يبدو أن الكلام، سيبقى خاضعاً للهسهسة، كما يبدو أن الكتابة ستبقى خاضعة للصمت، ولتميز الإشارات: وعلى كل حال، فإن ثمة معنىً كثيراً سيبقى دائماً، لكي تحقق اللغة به متعة تكون خاصة بمادتها، ولكن يبقى أن ما هو مستحيل، لا يعني أنه مستحيل على الإدراك؛ فهسهسة اللغة تشكل اليوطوبيا... أي يوطوبيا؟...
إنها يوطوبيا موسيقى المعنى، وإني لأعني بهذا؛ أن اللغة، لتتسع في حالتها اليوطوبية، بل لعلي أقول إنها لتتشوه أيضاً، وتظلّ كذلك إلى أن تنسج نسيجاً صوتياً هائلاً، تجد فيه الآلة الدلالية نفسها غير متحققة.
وهكذا ينتشر الدال الصوتي، والعروضي، والنطقي إنتشاراً تتجلى فيه كل فخامته من غير أن تنفصل عنه إشارته أبداً (يأتي لكي يطبع هذا الغطاء الخالص من المتعة) ولكن أيضا - وهنا تكمن الصعوبة، من غير أن يكون المعنى مقصياً بفظاظة، وساقطاً سقوطاً عقدياً...
ومع ذلك فاللغة في حالة هسهستها إذ تودع نفسها في الدال بحركة غير معروفة، ومجهولة في خطاباتنا العقلانية، فإنها لا تهجر من أجل ذلك أفق المعنى: وسيكون المعنى غير قابل للتجزئ، حصيناً وغير قابل للتسمية؛ كما سيكون، مع ذلك، موضوعاً في مكان بعيد، وكأنه شبح يجعل من التمرين النطقي مشهداً مضاعفاً بــ"عمق"، ولكن بدل أن تكون موسيقى الأصوات هي "عمق" رسائلنا (كما يحدث في شعرنا)، فإن المعنى سيكون هنا نقطة هروب المتعة... إني لأتصورني اليوم على طريقة اليوناني قديماً، تماماً كما وصفه هيجل: يقول، إنه كان يسأل بإنفعال، ومن غير إنقطاع، هسهسهة أوراق الشجر، والينابيع، والرياح، وبإيجاز، كان يسأل قشعريرة الطبيعة لكي يدرك قدر العقل.
أما أنا، فإني أسأل قشعريرة المعنى وأنا أسمع هسهسة اللسان - إذ من هذا اللسان طبيعتي، أنا، الإنسان المعاصر...
إن الكتابة عند رولان بارت، جسد جعل من الماء أوراقه، ولذا فهي ثرّة، وعذبة، ومولد حياة، وإنها، في أسّ تكوينها لتقوم على نقيد العقد المكرس، والمؤسس والمقدس بين المرسل والمتلقي... وسواء في مقالته هذه هسهسهة اللغة أو في سائر مقالاته... من العلم إلى الأدب - كتابة القراءة... عن القراءة... موت المؤلف... من العمل إلى النص... عودة الشعري... حداثة مبشيله... الوجه الباروكي... كتاب ومثقفون... إلخ.
عبثاً يحاول المرء البحث عنه في الذاكرة الجماعية، أو في ذاكرة التلقي الثقافية، وإذا كان هذا هو عين المستحيل فيها، فإن الوقوف عليها لحظة تسجيلها، ونسبها إلى آنيتها بغية تحديد حدوثها، ليعدّ أيضاً مستحيلاً آخر، وما كان هذا هكذا إلا أنها ليست وليدة الماضي الذي، ولا هي وليدة الحاضر الذي لا يدوم، ثم لا يلبث أن ينقضي...
إن الكتابة عند رولان بارت صيرورة، ولذا، فإن مكتوبها لا يقف بنفسه إرتحالاً، وتغيراً، ومآلاً، بل يتجاوز القارئ عن بعد إدراكه روعته يتجاوزه إلى ما لم يأت ويظل أبعد من إنتظاره… إنها فلسفة بارت وكتاباته في السهل الممتنع. إقرأ المزيد