ليس للأدميرال من يكاتبه ؛ مذكرات ضابط سعودي
(0)    
المرتبة: 21,341
تاريخ النشر: 19/02/2015
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:كان بيني وبين من أحبهم ثلاثة مطارات وجواز سفر... وتذكرة ذات وجهة واحدة... وحاجز اللغة والجغرافيا والتاريخ... كان العمر عشرين عاماً... وربما أكثر قليلاً ولكني لا أعرف... حقاً لا أعرف، وحقيقة لم يكن ذلك مهماً.
وكان العام هو الثامن والتسعون الهجري من القرن الماضي والشهر جمادى الآخرة... والفصل أوائل الصيف... ...يا ااااااه ثلاثون عاماً وأكثر... ما أسرع ما يتسرب العمر.
يقولون عن مرحلة ما بعد المرحلة الثانية إنها عنق الزجاجة... حيث الخيارات متعددة والروح متوثبة والخبرة قليلة... أما بالنسبة إلي أنا القروي القادم إلى العاصمة من أعماق الجنوب المنسي، فقد كانت الضياع بمعناه الكبير، وهو ما دفعني إلى ترك مقاعد الجامعة في أشهرها الأولى، بحثاً عن طريق مختصرة للسفر والمال والإنعتاق وتلبية نداءات الشباب ورؤية العالم... العالم الذي أسمع عنه ولم أره حتى الآن، وكانت الوجهة هي باكستان.. عبر بعثة دراسية عسكرية... لماذا باكستان...؟.
لقد كانت الخيارات في ذلك الزمن متعددة... ولكني اخترت الباكستان... من دون وعود كبيرة ومن دون مشورةٍ من أحد، فقد قال لي أحدهم، إن الذين يذهبون إلى أمريكا يضيعون ويفشلون، وكنت على إستعداد لتقبل كل شيء عدا الفشل، ورحلت من دون دموع في المطار... مطار الظهران إلى كراتشي عبر مطار أبو ظبي، شاء قدري أن يجلس بجانبي في الطائرة طبيب باكستاني..
وفي ذلك الزمن لم يكن يأتي من الباكستان سوى الأطباء والمهندسين... وتحادثنا بلغتي الإنجليزية المهمشة ولغته العربية المكسرة... غير أننا صنعنا حواراً في ذلك الفضاء وعرف وجهتي ومقصدي... أو هكذا اعتقدت، وعندما هبطت الطائرة في مطار كراتشي وخرجت بعد مكاتب الجوازات... عرفت أي عالم حنون تركته، وكم هو ناءٍ عني الآن، وكم هي طائشة خطوتي تلك، ولكن لم يعد هناك مجال للنكوص، هيهات لا مفر.
كان من المفترض أن يستقبلني شخص ما من قبل الملحق العسكري ليأخذني إلى الكلية، ولسبب لم أعرفه أيضاً لم يحضر، ووجدتني وحيداً خارج بوابة المطار بثوبي وغطرتي البيضاء وحقيبة اليد التي أمسكها بكلتا اليدين زيادة في الحرص والقلق، كأنني أحتمي بها... كأنها الملاذ... لا تقعوا في فخ القياس... العالم قبل ثلاثين عاماً ليس العالم الذين تعرفون الآن...
العالم الآن كله عند أطراف أصابعكم.. أما في ذلك العهد فشيء مختلف... كانت باكستان في نهاية العالم... أو هكذا كانت تبدو لي أنا القروي الصغير... وقفت حائراً خارج المطار لا أعرف ماذا أفعل، أصدق في السماء وأشجار نخيل جوز الهند، والمستقبلين الذين يعانقون محبيهم ويطوقونهم بعقود الورد (وكنت أول مرة أرى ذلك) وكنت حقاً وحيداً... سأختصر الحكاية... فقد وصلت أخيراً إلى الكلية... في مساء صيفي... وكانت الشمس تدنو للغروب والطلاب يمارسون رياضة المساء... وآلاف الغربان تنعق في جزيرة (منورا) الصغيرة جنوب كراتشي، وكانت تفصلني عن القمري سنوات ضوئية، وأتذكر أني وصلت متأخراً بعد زفافي بأربعة أشهر... أربعة أشهر أمضيتها في جامعة الرياض أدرس الجيولوجيا، وخرجت من كل ذلك بمعلومات تفيد أن الصخور ثلاثة أنواع: نارية ورسوبية ومتحولة ثم لا شيء؛ وأتذكر أحد الزملاء الذين هبطت عليهم دون إنتظار وكيف يتحدث وهم يسألونه: كيف السعودي الجديد...؟ صغيير "بتشديد الياء" ثم يضغط المسافة بين راحتيه ليبين لهم حجمي الصغير، وما أن غربت شمس ذاك اليوم حتى أصبح هذا السعودي الصغيير رابع ثلاثة في غرفة شهدت هذه المرحلة في حياته التي في لحظاتها الأولى وحين احتضنته، أنزل فيه ستاراً على الماضي وإلى الأبد، من دون أن يدرك، أن حياته ستشهد تحولاً، في مسارها وفي تاريخها، حيث حطّ رحاله هناك ليغدو "مشروع طالب عسكري"...
ولتمر السنون بهذا الطالب، فيعود وبعد ثلاثة وعشرين عاماً فيعود لهذه الكلية... ولكن ضيفاً بعد أن غدا قائداً لسفينة عربية.. محطات استوقفته وهو يقلب صفحاته ذكرياته... منها الحزين... الكئيب... وغيرها الذي يبعث على السرور والفرح... ولكنها كلها ذكريات لأدميرال شهدت حياته أحداثاً ومواقف... تحسسها بمشاعره.... وسطرها مذكرات لضابط سعودي. إقرأ المزيد