تاريخ النشر: 19/03/2014
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:"لا أعلم لماذا كل جيراني أحكموا إغلاق أبوابهم في هذه الليلة الباردة؟... طرقت كل الأبواب وكأنني أطرق جدار مقبرة!!!... انتصفت في الطريق، أمسح بنظراني كل الأبواب المغلقة، حتى صادفني شيخ كبير السن، لا يكاد يظهر من وجهه سوى عينيه، فقد حمى جسده من البرد بدثار من صوف، سألني: لم ...أنت هنا يا بني في هذه الباردة، ألا تخاف أن تتعرض للمرض؟ نظرت إلى عينيه الجاحظيتين، وقلت له: أبحث عن جيراني؟!... نظر إلى الأبواب المغلقة وقال: لن نفتح لك أحد، ولن يجيبك أحد... ولكني أحتاجهم... نظر إلي مباشرة وقال: أنا أحتاجهم أكثر من إحتياجك، قال كلمته تلك وغادرني، ألحقته بنظراتي وهو يغادر مكاني، يجر دثاره الصوفي خلف سواد الطريق، وقبل أن يصل إلى زاوية الطريق، لحقته وأمسكت بعضده، التفت إلي بهدوء وكأنه كان ينتظر يدي أن تمسكه، وعلى الفور وقبل أن أقول له شيئاً قال لي: أنا احتاجهم أكثر من إحتياجك لهم...
رفع كفه وأمسك كفي، أخذني نحو مدخل بناية صغيرة مظلم، أجلسني وحين جلس سقطت منه علبة تبغ، أمسكها وفتحها وأخرج منها سيجارة، وقبل أن يشعلها قدم لي سيجارة، فاعتذرت عن قبولها، أشعلها ونفث الدخان عالياً، نظر إلى دوائر الدخان وهي تتصاعد وقال لي: أرأيت هذا الدخان كيف يطير ويتلاشى في الهواء... أومأت برأسي أي نعم... قال: هذا هو تعبي!!!... نظرت إليه بدهشة، ولم يعلق نظره على وجهي، بل طأطأ رأسه إلى الأرض وقال وكأنه يحادث نفسه: ماتت زوجتي قبل ثلاثين عاماً، وعلى فراشي الموت قالت لي: أوصيك يأبنائي، كن لهم الأب والأم، ولا تتزوج!!!...
لم يمض على قولها هذا ساعات حتى سلمت الروح إلى بارئها، احتضنت أبنائي ودثرتهم بدمعي المدرار على فقدها... لن أزيد في حديثي، ولن أقول لك ما فعلت لأجلهم، يكفي شيء واحد أقوله وستقرأ فيه كل شيء... كل شيء... بعد رحيل زوجتي كنت لهم الأب والأم، ولم يدخل داري من يقتسم معي وحدتي، رفع رأسه نحوي وسألني: علام إحتياجك لهؤلاء الجيران... عانقت ظلام السماء دون أن أنظر إليه وقلت: لأني في لحظة ضعف... كانت هناك دمعة في عينيه لم تجد من يحررها من قوة صبره، رسم إبتسامة باهتة على شفتيه وسألني: أين كنت عنهم في لحظة قوتك؟!!! تسمرت نظراتي على ملامحه دون أن أنبس ببنت شفة، شعر بحوجي، ولكنه أكمل حكايته، دون أن يستفسر عن نقطة ضعفي، أو يعرف أين كنت من قبل: سافر أبنائي لتكملة دراستهم على حساب الدولة، ولم يعد أحد منهم، ربما توقعوا موتي.
لمحت دمعته التي تغلبت على قوة صبره قبل أن يلحقها ويمسحها بسرعة، سألته سؤالي الثاني في عمر هذا اللقاء: ألم يسألوا عنك أبداً؟ قال بحسرة: يا بني... دع الخلق للخالق... سكت لبرهة ثم أكمل: لم يقل لي أحد، هل هم عادوا من غربتهم؟ هل التحقوا في عملهم وشغلهم، هل تزوجوا وسرقهم أبناؤهم عني؟ لا أعرف يا بني... لا أعرف يا بني... حين أجهش بالبكار المرير، حرت في ما أفعل له، وضعت كفي على رأسه، وبللت عمامته بدموعي... مسح دموعه وقال لي وكأنه حجل من نفسه: لا عليك يا بني... لا عليك، وكأنه تذكر شيئاً وأكمل لخطتئذن وقال: دع الخلق للخالق..." لا أحد يطرق بابك... فلا تنسى الخالق...
قصة تأتي في سياق مجموعة قصصية تأخذ طابعاً إجتماعياً، وكأن الكاتب يفتح أبواباً مغلقة قَبع خلفها أناس لكلٍّ منهم حكايته في هذه الحياة.
يدخل الكاتب في عمق الشخصيات والحدث الذي يمثل بقعة يسلط عليها الضوء بما تمثله من إختراقات إنسانية... وجدانية... إجتماعية، منتقداً ومعالجاً مشاكل ألمت وتلم بالإنسان، المقهور حيناً، والمصاب بالإحباط أحياناً وبالخذلان في بعض الأحايين، كاشف عن أسرار بيوت فتح أباباً لها كانت مغلقة. إقرأ المزيد