مأزق الدستور ؛ نقد وتحليل
(0)    
المرتبة: 136,995
تاريخ النشر: 01/01/2006
الناشر: معهد الدراسات الاستراتيجية
نبذة نيل وفرات:فرغ العراق لتوه من كتابة الدستور الدائم الجديد والاستفتاء عليه، وهي خطوة هامة نحو إرساء نظام سياسي جديد ديمقراطي منفتح ومتوازن.
لقد بدت الآراء في صدد الدستور الذي استفتي فيه العراقيون، هزلية ودرامية في آن، في تباعدها وتصادمها، وفي ثنائها أو قدحها. أبدى العراقيون حمية غير مألوفة في النقاش الدستوري. ...وحسب أحد التقديرات رفع العراقيون إلى لجنة الصياغة نحو مئة مسودة دستورية، وقدموا قرابة 450 ألف اقتراح دستوري، كما عقدوا أكثر من 280 ندوة وورشة عمل للمناقشة، منها سبعة في لندن. ولم تبق هيئة خارج هذا السجال، حتى الهيئات التي تعارض مبدأ كتابة الدستور في هذه الفترة نظمت ندواتها، وضعت مبادئ دستورية تنسجم ورؤاها الفكرية للمستقبل.
هذا اهتمام أو هم غير مسبوق لأمة صامت عن القول قرابة ثمانين عاماً. عاش العراق في ظل خمسة دساتير حكومية مؤقتة. ولم يحظ في تاريخه بأي دستور دائم سوى دستور العهد الملكي عام 1924. وجاء الدستور الملكي ثمرة تلاقح قوى وأفكار عدة.
المشكلة في الدستور الجديد أنها مركبة. فهي، حسب تعبير أحد خبراء الدستور، تقوم في معالجة اختلالات الماضي ومنع تكرارها، أي منع العسف الاثني والتحيز المذهبي والاحتكار الضيق للسلطة والموارد. ولكن المشكلة أيضاً تقوم في توزيع منابع السلطة والثروة لجهة المستقبل. هكذا دار ويدور المشرعون الدستوريون بوجهين: وجه الماضي ووجه المستقبل.
وقد اختار العراقيون الفيدارلية صيغة لحل مشكلة الثنائية القومية للعراق. كما اختاروا النظام اللامركزي صيغة لحل مشكلة الاحتكار المركزي للموارد الطبيعية وعائداتها. وهذه حلول سليمة. غير أن رغائب احتكار السلطة القديمة تستمر في صيغ جديدة لدى بعض القوى. من هنا الميل إلى تعميم الفيديراليات خارج نطاق المنطقة الكردية. وتنبعث ميول الاحتكار هذه على خلفية تحويل الاختلافات المذهبية إلى إيديولوجيات تعبئة سياسية وانتخابية (لجهة المشاركين في الحكم)، وعلى خلفية نزعة تكفيرية، تدميرية (لجهة أمثال الزرقاوي القادم من العصر الحجري).
ورغم أن الهويات الاثنية والمذهبية تتقوى وتترسخ كل لحظة، مستفيدة من فراغ الأفكار، إلا أن هذه الهويات متشظية بدورها إلى كتل جهوية وأحزاب إيديولوجية وقوى أسرية تجمع الروح المحافظة بالولاءات الصغيرة. وتتمحور الحياة السياسية اليوم على أربعة اتجاهات أو مجموعات هي: الكتلة الشيعية (الائتلاف العراقي الموحد) والكتلة الكردية (الجبهة الكردستانية) والكتلة السنية (مجموعة قوى وأحزاب) والكتلة الوسطية.
لكن الكتلة الوسطية هي الأضعف، والكتلة الإسلامية الشيعية الأقوى. وتبدي هذه الأخيرة نزوعاً شديداً للاستئثار السياسي. فأولاً، تميل الكتلة الإسلامية الشيعية إلى مبدأ الحكم بالأغلبية لا بحكم يقوم على مبدأ التوافقية، وهو مبدأ جديد يوسع المشاركة السياسية ويضع قيوداً تمنع ما اصطلح عليه بديكتاتورية الأكثرية. وقد ضربت حكومة إبراهيم الجعفري بهذا المبدأ عرض الحائط، رغم أنه قائم في الدستور الموقت الساري.
وتميل الكتلة الإسلامية الشيعية، ثانياً، إلى تعميم مبدأ الفيدرالية لأجل الإنفراد بالمحافظات الجنوبية وتحويلها إلى موئل لولاية الفقيه الفاشية الطابع. وتميل هذه الكتلة، ثالثاً، إلى تأمين فوزها بالأغلبية بأي ثمن. ذلك أنها تدرك أن الميول الجديدة لدخول الانتخابات والمشاركة في الاستفتاء التي تتزايد في المحافظات السنية تؤدي إلى تقليص الوزن النسبي للكتلة الإسلامية الشيعية.
وابتغاء تمرير الدستور من دون تعديل، عمدت الكتلة ذاتها إلى إصدار "فتوى" دستورية يصعب حملها على محمل الجد، حول المادة 61 من قانون إدارة الدولة الموقت الناظم للاستفتاء. فحسب نص هذه المادة لن ينجح الدستور إلا إذا فاز بأغلبية المقترعين، ولم يصوت ضده ثلثا المقترعين في ثلاث محافظات أو أكثر.
والكتلة أفتت بأن كلمة "المقترعين" تعني المسجلين في قوائم الناخبين في الحالة الثانية (ثلاث محافظات)، وتعني الناخبين الذين يدلون بأصواتهم في الحالة الأولى. كيف يمكن لكلمة واحدة (هي الناخب أو المقترع)، في مادة دستورية واحدة، أن يكون لها معنيان مختلفان؟ الجواب: خوف الكتلة من تصويت المحافظات الممتنعة.
هذا اللعب على حبال المعاني لم يقتصر على تأويل القوانين، بل تعداه إلى كتابة الدستور. أما المعارضون فمنقسمون بين ساع إلى إعادة نظام تسليطي بائد، بكل رموزه وإيديولوجيته، أو منغلق في هوية طائفية مضادة، تحمل بذور دمارها الذاتي، وتشل فرص تيار وسطي عابر للطوائف. وكان الاستثناء في ذلك "الحزب الإسلامي" الذي نجح في انتزاع تنازلات مهمة معلناً موقفه بشجاعة.
لكن يبقى فارق هائل بين إرساء أسس دولية توافقية مستقرة، وبين سعي كتلة من هنا أو هناك إلى ضمان مصالح استمرارها في الحكم من دون قيد، أو تفويض يقوم على الأداء والصدقية.
رغم ما تقدم: يحوي الدستور كثرة من المبادئ السليمة، لكنه يحوي أيضاً مواد متناقضة يمكن أن تهدد توازن النظام السياسي وتقلص الحريات السياسية واستقلالية المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الأقليات.
والكتاب الذي بين يدينا والصادر عن معهد الدراسات الاستراتيجية والعراق يقدم مجموعة تحليلات وأطروحات عقلانية لتعديل الدستور في سياق النقاش البرلماني حوله، وتأتي هذه المبادرة لتكون جزءاً من المساعي الرامية إلى تطوير الدستور وحافزاً على مساندتها. إقرأ المزيد