تاريخ النشر: 01/01/1989
الناشر: دار الجيل للطبع والنشر والتوزيع، دار عمار للنشر والتوزيع
نبذة نيل وفرات:إن الصعوبة التي تواجه الباحثين، من فلاسفة وغيرهم، وهم يتصدون لدراسة المبادئ والأفكار الخطيرة تبدو في أجلى صورها ومعانيها في محاولات الفلاسفة أنفسهم في تحديد معاني الفلسفة ومدلولاتها. والملاحظ على تاريخ الفكر الفلسفي أن هذه الصعوبة في التعريف لم تؤد إلى اختلاف في الرأي والاجتهاد حول الدلالة الوصفية المجردة ...للمصطلح فحسب، بل تعدى الأمر ذلك إلى اختلاف وتفاوت في تقويم الفلسفة وتقدير منجزاتها أيضاً.
وهكذا أطلق المصطلح أحياناً للدلالة على دائرة معينة ومخصوصة من المعرفة الإنسانية، في حين أريد به في أحايين أخرى كثيرة جوانب من المعرفة أهملها الآخرون أو لم يحسبوا لها حساباً في تقديراتهم.
ففي الحاضر الوصفي للمصطلح، مثلاً أطلق اللفظ أحياناً للدلالة على: جملة المعارف العلمية التي هي حصيلة اجتهاد إنساني رفيع قائم على المناقشة العقلية الواعية والنقد النزيه الذي لا يقيم وزناً لغير الحجة والدليل والبرهان حساباً، وبهذا الاعتبار ترادف المصطلح في المعنى في مضمونه ومحتواه مع "العلم" في أدق معانيه ليقف طرفاً نقيضاً ومقابلاً للشعر والتاريخ والتجربة الدينية. وعلى نحو مقابل أطلق اللفظ في أحايين أخرى كثيرة بمعنى يتساوى فيه في الدلالة والمعنى مع الشعر والتاريخ، باعتبارهما نتاج تجربة وجدانية أساسها الحدس والإلهام والبصيرة الباطنة، وبهذا يقف المصطلح طرفاً نقيضاً ومقابلاً للعلم، ويصبح عنواناً لمعرفة تأملية وتجربة ذاتية باطنية، لا شأن لها بالعقل أو الشروط الموضوعية للمعرفة العلمية.
وفي الجانب التقويمي للمصطلح، نجد من بين الحكماء من رفع شأن الفلسفة فأحاطها بهالة من التقدير والإعجاب باعتبارها محاولة عقلية مخلصة ودؤوبة لاكتساب الحكمة، والبحث فيها، وبذل الوسع كله من أجل التحقق بها، فإننا، وبقدر مساو، لا نعدم في صفوفهم آخرين: سخروا منها، واستخفوا بمنجزاتها، وسفهوا موضوعاتها، فرفضوا الاعتراف بشرعيتها، باعتبارها: مشروعاً راكداً، وجدلاً فارغاً في قضايا متوهمة، لا تسوق في الغاية والنهاية إلا إلى مجموعة اعتقادات فاسدة لا تستند إلى العلم ومنهجه الوضعي بصلة.
كذلك نجد في تاريخ الفلسفة أحياناً تقابلاً وتضاداً بين مصطلح "الفيلسوف" الباحث عن حكمة مصفاة لا ريب فيها دافعها الرغبة الحقيقية في التماس المعرفة الحقة المنزهة عن الأغراض، دينية كانت أم دنيوية، وبين "السوفسطائي" الذي يقف بوجوده شاهداً على حكمة مموهة ومعرفة قشرية مشوبة بالمنفعة لا تبحث لذاتها بقدر ما تهدف إلى تجارة رخيصة ومبتذلة بالكلمة الشريفة.
وإذا كنا نواجه في تاريخ الفكر الفلسفي فلاسفة كباراً يدعون إلى إسقاط الفلسفة باعتبارها في أفضل صورها لا تعدو أن تكون مشروعاً راكداً، وزخرفة لفظية وبحثاً في أشباه قضايا ليس لها وجود حقيقي، فإننا وعلى النقيض من هذا كله، نجد آخرين، وهم كثر، اعتقدوا عن إخلاص بأن المشاكل التي تعاني منها البشرية مما لا يمكن تجاوزها إلا بإقامة دولة مثالية فأضلة يكون الملوك فيها فلاسفة أو الفلاسفة ملوكاً.
ونحن إن تجاوزنا هذا الاختلاف والتباين في الآراء حول الدلالتين اللفظية والتقويمية للمصطلح، وهي الخلافات التي اشتد سعيرها في مطالع العصور الحديثة فإننا نرى أن الفلسفة بمنهجها العقلي، والتي مثلت على الدوام محاولة إنسانية سامية تحاول إسقاط الآراء الشائعة والأفكار السائدة والاعتقادات المألوفة التي ليس لها من سند سوى الالف والعادة والنزوع إلى المحافظة وتدعو في إصرار إلى معرفة لا تدعي العصمة واليقين والإطلاق، وتحاول قدر الوسع الإنساني النظر إلى مجمل الفكر الإنساني المتحقق فعلاً، في فترة زمنية معينة، من وجهة نظر نقدية واعية ومخلصة لمرتكزاته وقواعده وتحويلها إلى عناصرها الأولية ثم إعادة بنائها وتركيبها وفق معطيات مستجدة في الحياة لم يكن للسابقين علم بها. وهكذا تتجلى لنا الفلسفة في صورة محاولات إنسانية دائبة وموصولة تعتمد الهضم والتمثيل لما هو قائم ومتحقق فعلاً في دنيا المعرفة الإنسانية المتراكمة ثم إعادة صياغته وبنائه في صورة جديدة ومبتكرة، فيها معنى الإضافة والتجديد، دونما سقوط في دعوى النزعات القطعية التوكيدية التي تسد منافذ الاجتهاد الإنساني، دونما سقوط في دعوى النزعات القطيعة التوكيديةالتي تسد منافذ الاجتهاد الإنساني، فتضفي على ما هو نسبي بطبعه، من حيث إنه من صنع الإنسان وتقديره، صفة الثبات والديمومة. وهذه الصفحات محاولة لبيان ذلك كله بلغة واضحة ميسرة تعين القارئ العام والباحث المتخصص، على السواء، في الإحاطة بمعاني الفلسفة ودلالاتها عبر القرون. إقرأ المزيد