تاريخ النشر: 01/01/1986
الناشر: دار النفائس
نبذة نيل وفرات:غرق العالم الإسلامي بالدماء، دماء بني أمية، ومن والاهم، ومن شايعهم، ومن انتصر لهم، فقد انطلقت الرايات السوداء من أقاصي خرسان، وسارت تحتها جحافل الناس وقد ضمت أمماً شتى، جمعها الحقد ضد بني أمية، وجمع بعضها الحقد على الإسلام ذاته. وانطوت الرايات البيضاء، رايات بني أمية، لتظهر من جديد ...في أقاصي العالم القديم، في أندلس المسلمين. وكان لزاماً أن تظهر التناقضات فور استقرار الأمر لبني العباس، ذلك أن هؤلاء الذين ركبوا موج الدعوة لآل البيت، لم يكن هواهم مع آل البيت إلا سبيلاً للتحكم بدولة المسلمين.
وإلى جانب هؤلاء وأولئك كان هناك الروم الذين ظنوا أن الفرصة قد باتت مؤاتية لهم للكيد للإسلام وأهله، وكذلك كان شأن الترك المتاخمين لحدود الدولة الإسلامية في أقصى المشرق. وعلاوة على ذلك كله، فقد كان من طبيعة الأمور أن تظهر طموحات الطامحين وأطماع الطامعين للإفادة من التناقضات جميعها. ولقد استطاع أبو العباس السفاح إرساء قواعد الدولة، غير أن فترة حكمه لم تتجاوز الأربعة أعوام إلا قليلاً. وكانت بذور التناقضات تحتاج لفترة حتى تزهر وتثمر، فلما جاء أبو جعفر المنصور، أخذت المتاعب في الظهور تباعاً، ولقد وجدت هذه المتاعب في أبي جعفر المنصور رجلها الذي يواجهها ويحل معضلاتها.
لم تكن القضية بالنسبة لأبي جعفر المنصور هي قضية إقامة دولة -أي دولة- ولا قضية إرساء قواعد الحكم -أي حكم- وإنما كانت قضية بناء الدولة العربية الإسلامية على قواعد ثابتة وأسس سليمة. وكان يعرف أن الشعوبية هي أخطر ما يتهدد الإسلام بالانحراف فبادر لقطع رأس الفتنة -أبي مسلم الخراساني.
وعرف المنصور أنه من المحال ضمان استقرار الدولة بوجود مراكز القوى المتعددة، فبادر بالقضاء على مناوئيه من أبناء عمومته، أحفاد الحسين رضي الله عنه. وأدرك أنه من أبسط واجبات الدولة الإسلامية الدفاع عن ثغور المسلمين وحماية حدودهم وضمان أمنهم، فبادر إلى حشد الحشود، وزج الجيوش حتى أمكن له القضاء على التهديد الخارجي.
وكان العامل الأكثر أهمية هو إحقاق الحقوق وإشاعة العدل، ونشر الأمن، وإقامة الحدود، حدود الله، والتطبيق الدقيق لأحكام الشريعة الإسلامية. فاختار من الولاة أفضلهم وأتقاهم، وتابع أعمالهم، وتشدد في مراقبتهم ومحاسبتهم، فأمكن له بذلك إعادة بناء الدولة العربية-الإسلامية.
لقد ألزم المنصور نفسه بنظام صارم لا يحيد عنه: "كان شغله في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والعزل وشحن الثغور والأطراف، وأمن السبل والنظر في الخراج والنفقات ومصلحة معاش الرعية لطرح عالتهم، والتلطف لسكونهم وهدوئهم. فإذا صلى العصر، جلس لأهل بيته إلا من أجب أن يسامره، فإذا صلى العشاء الآخرة، نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف والآفاق، وشاور سماره من ذلك فيما أرب. فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه، فأسبغ وضوءه، وصف في محرابه حتى يطلع الفجر، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيجلس في إيوانه".
وكان من عادته الخروج إلى الناس، هذا هو المنصور، رجل الدولة العربية-الإسلامية، أمضى أثني وعشرين عاماً من عمره مجاهداً في سبيل الله، مدافعاً عن دينه، حامياً لحدوده، جراراً لجيوشه، فاستقرت الدولة العباسية بعد اضطراب، وتوحدت دولة العرب المسلمين بعد تمزق.
وكأن ما بذله المنصور من جهد وجهاد لم يكن كافياً، فمضى لتشجيع الحركة العمرانية، وتلك هي بغداد المسلمين، تعيش مزهوة لتذكر ببانيها وواضع أساس تشييدها، المنصور. وتلك هي (الرصافة) أخت بغداد وتوأمها، هي من بعض ما تركه المنصور للدنيا. وبالمنصور وبمعناوية بن أبي سفيان من قبل، وحفيده عبد الرحمن الداخل، عرفت الدنيا عز العرب المسلمين ومجدهم بما أعطوه للدنيا من عطاء خالد، لا في مجال البنيان والعمران، وإنما في مجال الأمثولة الفضلى، والنموذج الأعلى للإنسان العربي المسلم، قائداً وحاكماً ومجاهداً في سبيل الله، يعمل لآخرته، ويبني لأمته، أمة العرب المسلمين.
وتبقى سيرة المنصور نموذجاً مميزاً في حدود التجربة التاريخية، تضم من الفائدة بما يتجاوز حدودها الزمنية والمكانية. إنها تجربة الدولة الإسلامية في الرجل العربي-المسلم، وتجربة الإنسان العربي المسلم في بناء الدولة، وسط بحر الدماء والاضطرابات. إقرأ المزيد