تاريخ النشر: 01/01/2025
الناشر: المركز الثقافي العربي
نبذة نيل وفرات:خواطر شتى تتجاذبني وأنا أتوجه من مكناس، حيث كنت أقيم، إلى مطار الدار البيضاء لأداء فريضة الحج، هل قدّرت يوماً أني سأشدّ الرمال إلى الديار المقدسة وقد نفرت عما كنت أراه رسيس تربية ومخلفات ثقافة؟...
هل يستقيم هذا العزم وقد نبذت ماضي ورائي ظهرباً؟ وهل هو حجٌ أم إستكشاف؟... وأي ...إستكشاف يكون؟... ألم أدفع كل الدعوات التي تلقيتها لأداء الحج، متأدباً أحياناً، متندّراً أخرى، مستشهداً بمقولة تنسب إلى أحمد شوقي وقد قرر الخديوي أن يبعثه إلى الحج: "كل شيء إلا ركوب الجمال يا أفندينا"، ألم أنتهر أمي حينما رغبت في الحج، لأني كنت أرى ما لا ترى؟... كنت أرى في الحج وقد تواثرت حوادث الإزدحام والحرائق والضحايا مخاطرة، وهل أدفع بأمي إلى التهلكة؟ ثم ما يفيد أن يطوف المرء وسط الزحام، ويرشق نصباً بالحجارة؟...
فأي رحلة هذه التي سلكت من رافض للحج متندّر بشؤو نه إلى تقدمٍ عليه، وهل هي أوبةٌ إلى ذلك الحضن الذي احتضتني وأنا بعد صغير، أم هو إستكشاف لطقوس وعبادة ووقوف على تجمّع هائل ليس إلاّ؟... هل هي مصالحة مع الإسلام، أم هي قطيعة نهائية تأخذ شكل سَفَر للوقوف على وجهٍ من وجوهه؟... واستحضرت سابقة عالم انتروبولوجي حرّكه الحنين إلى ما أسماه بيته الوجداني، فحجّ... ولكن الحجّ والمظاهر التي عاينها ما زادته من الإسلام إلا نفورا، هو إحتمال أن تكون القطيعة النهائية... وبعد أنا لا أزيد أن أفيْ بنَذْرٍ قمت به في حالة ضعفٍ... ولكن ينبغي الوفاء بالنذر، ثم قريبتي تلك التي فقدت ابنها، وارتأيت أن أبعثها هي وزوجها للحجّ ليلسوان، وهي تلحّ عليّ أن أصحبها وإلا فهي لن تذهب... ووثائق السفر التي ضاءت فلم يوجد لها أثر عند الجهة المضيفة، ألم أعبّر حينها عن الإرتياح وقد اتصل بي صديقي عبد الرحمن أبو حميد يعتذر أن قد ضاعت الأوراق... وأنا أرفع عنه الحرج: لا عليك يا عبد الرحمن، الخير فيما اختاره الله تعالى ... وأداري في حقيقة الأمر فرحتي أن أعفيت من الحج... فأنا حلٌّ إذ من النذر الذي قطعته، وأنا في حلّ من الحاف قريبتي... ولكن أبا حميد يتصل بي بعد يومين ليقول: أبشر، أخ حسن، أوراقك وُجدت... ودخلت البيت واجماً وكنت في إحدى الجولات التفقدية، وأنا إذّاك والٍ على جهة مكناس تانيلالت، ولاحظت زوجتي أطواقي، فقلت بالفرنسية: يبدو أن قصة الحج صارت حقيقة، فردّت: عليك أن تبتهج، شعرت حينها بجسامة الأمر... فليس الحج عبثاً، حتى لو لم يؤمن به المرء، لا يمكن الهزء به، لو أعميت لكان خيراً لي.. ولكن... كنت في قرارة نفسي متهيباً من الأمر، كنت أعرف أنني أن أديت فريضة الحج، فعليّ أن أطوي صفحة من حياتي، وكانت أشياء كثيرة تشدّني إلى حياتي السالفة، متع، وخطوة... وسراب، ولكني ألفته، هذا السراب وكنت أستحضر قصة تنسب إلى قائد من قواد قبيلة أُمتوكه ذهب إلى الحج، وسألي أي الدعاء يدعو برحاب الكعبة، فقيل له: دعاء رسول الله: اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك..." فردّ: هي مشات تقيّادت (ذهبت الإمارة إذاً)، فأنا لو ذهبت إذا لحرمت من الإستمتاع بما عليه درجت... في مارس من سنة 2002، مدير الراهبة حريصاً على مشارف بيروت، كنت أنظر إلى جموع الرهبان، وهم يتلون صلوت الفصح.
كانت صلواتهم مثلما رخيمة عذبة... وجدت في دفاتري إحدى تلك الصلوات: عرفت بأن قد تعثّر دربي فجئت إليك تقود خطاي... وتعرف أني بحبك ربي أهيم كصبٍّ وفيك هواي... وليس لدربي سواك رفيق يا الله يا الله... في مكان ما من ذلك الدير كتبت هذه المقولة التي لم تفارقني قط: لا ترحل عن هذا المكان إلى أن نتحول، ما جدوى أن أنفر إلى مكة حاجَّاً وأزور المدينة إن لم أتحوّل؟ وهل الحج إلا هجرة؟ هجرة في الله تجربة إيمانية ذوقية رحل الكاتب إليها وفيها - تجرّع حلاوتها عند لقائه الكعبة المشرفة التي كانت بمثابة لقاء مع ذاته، كان طوافه بحثاً، ولما أن فرغ سعى، وبعد السعي، انزوى جانباً ينظر إلى ما حوله متمليّاً بحياته... قد كان لحجّه ألا يكون إلا شعيرة.
وفجأة، نعم، كماء يتفجر من الأعماق تحوّل رواء انبجس من داخل نفسه... وفجأة وقف وهو يردد، وحديث نفسه يقول: يلي.. وهل الحياة إلا تلبية لنداء الله... له وحده لا شريك له... في كل زمان ومكان.. وغدا كريشة يشعر بخفة وحيوية... ولم يكن يدري أن ما سيفضي له هذا الشعور من تحوّل في حياته، كان يقوم بشعائر الحج وهو موزّع بين شخصين... شخصٌ يقوم بالشعائر، وشخصٌ يرمقه في الوقت ذاته... كاد لمرات عديدة أن يقول كل هذا عبث...
أشياء كثيرة كانت تنّفره، ولكن أشياء كثيرة تفوقها تفعمُ خاطره... راصداً ذلك كله... إذا أحس أنه كان يرصد ذبذبات تحوّل في ذاته... إل أن وقع ذلك الشعور العجيب وهو بغناء المسجد الحرام بعد فراغه من طواف الإفاضة ومن السعي... ليقع التحول في آخر لحظة.
إن ما وقع في قلبه إن هو إلا نور يقذفه الله تعالى في قلب المؤمن، كما يقول الإمام الغزالي، أو هو طائر يحطّ على عرش نفس الإنسان، كما في تعبير القطب سيدي عبد القادر الجيلاني: "الإيمان طائر غيبي ينزل من أفق، يختصّ برحمته من يشاء، يسقط على شجرة قلب العبد، يترنم له بلذيذ لحونه..." هو مسألة لا تدرك إلا بالذوق... ليس من وسيلة للتعبير عنها... فالكلام يعجز عن ذلك... لقد تحوّل، وتلك المقولة التي كان قد قرأها في دير الراهبة حريصاً... يتردد صداها عند ابن عطاء الله السكندري: لا ترحل من كون فتكون كحمار الرحى يسير والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوّن (وإن إلى ربك المنتهى)... وها هو قد رحل، آخذاً القارئ في سراديب تلك التجربة يوماً بيوم كما قيّدها سطوراً حروفها من نور قذفه الله تعالى في قلبه... إقرأ المزيد