تاريخ النشر: 01/01/2022
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر
نبذة نيل وفرات:"يوحي شارع النصر في الصباح، بمدينة تنفض عنها أنفاس الليل المحتقنة بالروائح المتخمرة والدخان والغبش المتكاثف، يبددها، على مهل، الإيقاع الرتيب للنسائم الباردة، وتهادي السيارات الآتية من دوار محطة الحجاز، وحركة المارّة المتمهلة...
تنعشها الأصوات المتباعدة لرفع أغلاق المحلات؛ بائع العصير، يرتب على المصطبة أكوام التفاح والبرتقال، ويعلق أقراط الموز، ...شرطي السير عند المنصف يلوح بيده، العرضحالجية يغردون طاولاتهم وكراسيهم على الرصيف؛ حياة تمضي على أحسن وجه.
وقد يعكر صفو هذا الصباح إشتباك بين مسلحين ودورية للأمن يخلف قتلى وجرحى ودماء، أو تفجير سيارة في شارع قريب، أو سوق مزدحم بالناس، توقع الخطر يشلّ الحياة أحياناً، غير أن الحياة أقوى، أو هذا ما كنت آمله، لم يفارقني الشعور بالخطر منذ مغادرتي حماه قبل ثلاث سنوات، حملته معي من مدينتي، وإذا كان تضخم، فلأنني أصبحت بعيداً عن العائلة، لم تكن معي سوى زوجتي، في العام الماضي، بلغ بي الشعور بعدم الأمان أقصاه، بعدم الأمان أقصاه، ما خلّف في داخلي حاجزاً إزاء دمشق المدينة التي تقت للعيش والعمل فيها.
بعدما تحققت أمنيتي، رغبت في مغادرتها، تبدو لي خلاف ما ألفته فيها، باهتة وموحشة، لا أجهل أن العطب فيّ وليس فيها، ما دمت قلقاً، فما يقع عليه بصري أراه باهتاً...
دمشق تغيرت، على غير ما عرفتها ودودة وهادئة؛ الحواجز الأسمنتية اخترقتها وانتشرت أمام دوائر الدولة ومؤسساتها، دوريات الأمن تستوقف المارة، تطلب هوياتهم الشخصية، تفتش وتعتقل أي شخص يثير مظهره الريبة، اللحية والسبحة والصلاة والإستعانة بالله تعالى من المظاهر المريبة.
قانون الطوارئ يسمح للدوريات بدخول المساجد وإعتقال من تشتبه به، إحتياطات إستدعتها إغتيالات طالت شخصيات مهمة، وتطلبت تشديد الحراسات على بيوت المسؤولين الكبار، ومنهم حزبيون بعثيون وضباط في الجيش ورجال مقربون من السلطة... الحملات الأمنية تنقضّ على الأحياء تبحث عن المطلوبين من جماعة الإخوان المسلمين.
هذه هي الحياة تمضي على أحسن وجه لا يمنحني عملي قاضياً في القصر العدلي إمتيازاً عن غيري ما دمت لست بعثياً، فإطلاعي محدود على ما يجري، أتسقط، مثل غيري، أخباراً تقارب الرواية الرسمية عن معارك تدور بين الجيش والإرهابيين الإسلاميين تعلن عنها رسمياً وكالة سانا بعد يوم أو يومين، منقوصة كالمعتاد، فالتشديد على عدم تسريب المعلومات، إلا بقدر ضئيل ومحسوب، كان النهج المعمول به.
أما ما كان يتردد عن ممارسات وحشية في أرياف الشمال، فمرعب ومشوش، الجنود يدهمون البيوت ويعتقلون الرجال والنساء والأطفال، وينكّل بهم دون تمييز،... وأقاويل عما يدعى "كتيبة الذبح" تقتل، دون سؤال أو جواب، كل من تصادفه أثناء المداهمات و"كتيبة التعذيب" تستجوب المشبوهين وتذيعتهم الويلات.
الكثير من الأبرياء حصدتهم الرشاشات، أو اختفوا ولم يظهر لهم أثر، أعرف منشأ مخاوفي، لم يكن مما يمكن أن يلحق بي من أذى في دمشق، بل مما يدور بعيداً في حماه، تراودني عنها توقعات مفزعة، حماه ليست بخير، وأنا لست بخير، لم أكن متعلقاً بها مثلما أنا الآن... يدهمني إحساس أنني بدأت أفقدها، ولا أرغب في إستبدالها بأخرى، ما يلحّ عليّ من هواجس كان بخصوص عائلتي، أبي وأخي وزوجته وأولاده، ليس أنني أصبحت متطيراً، الأخبار السيئة لا تكف عن التوارد.
حماه محاصرة، معزولة عن العالم، قوات الجيش ضربت حولها طوقاً من الدبابات والمدرعات، لا يسمح لأحد بالدخول أو الخروج منها، الكهرباء والإتصالات الهاتفية قُطعت عن أجزاء منها، طالت بيت العائلة في الكيلانية، استوقفني الحاجز العسكري قبل وصولي إلى مشارف حماه، كانت مدينتي مغلقة في وجهي...
أمرني الجنود المرابطون بالرجوع... رجوت الضابط المسؤول السماح لي بالدخول ساعة واحدة لأطمئن إلى أهلي، لم يقبل أية حجة، طردني بفظاظة وهددني بإطلاق الرصاص عليّ في حال لم أغادر فوراً... كان هذا قبل نحو ثلاثين عاماً... وماذا قبل ثلاثين عاماً... وماذا بعدها... ماذا عن تاريخ ابتلع أحداثاً... وأشخاصاً... ومدناً... وكأنه أو من تعذيب سوريا فأسلمها لمستقبل أعنف وأقسى منه تدميراً وقتلاً...
بالأمس حماه واليوم حمص... حلب... درعا... ودمشق الوادعة تضحي تلك الأم تبكي أبناءها وتاريخها... ينقلك الكاتب من مرحلة إلى مرحلة... ومن سلطة إلى أخرى ومن ضابط إلى آخر... العامل المشترك بينها جميعاً فترة هيمنة حزب البعث وإستلامه السلطة... وما رافقها من أحداث حدثت على رؤس الأشهاد، وتلك الأخرى التي حدثت في الخفاء... وفساد يأكل أبناءه... ويهيمن بظله القاتم على من أئتمته على نفسها... على سوريا...
يعري الكاتب شخصيات السلطة المتسلطة... ضباط ورجال مخابرات ورؤساء وقضاة ومن لاذ بحمى السلطة... يسمي الأشياء بجسمياتها... يعري النفوس... ويسلمك هذا كله إلى حزن عميق عميق عميق... باحثاً عن أمل يجعلك ترى دمشق ومدنها... سوريا من أقصاها إلى أقصاها تنفض الموت عنها وتحلق عالياً كطائر الفينيق... ينبعث حياً من موت سحيق... إقرأ المزيد