تاريخ النشر: 01/01/2015
الناشر: دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع
مدة التأمين: يتوفر عادة في غضون أسبوعين
نبذة نيل وفرات:الكتابة اختبار، وأنها بوصفها كذلك، لنستطيع إعادة إنتاج نفسها وغيرها إلى ما لا نهاية، وإنها إذ تفعل هذا تبتغي أن تقول ما لم يفكر فيه، وأن تنتج ما يستحيل أن يقبض عليه غيرها.
ولقد مارس "كارل ماركس" الكتابة ليجد نفسه فيها فكراً لما يقول، فاستولت عليه، وصارت هي فكر ما ...يقول، وكان أن أحدث لمّا مارسها إنقلاباً في علاقته مع العالم، فأخذ يراه، لا من خلال ما يُخبر به العالم عن نفسه، ولكن من خلال ما تصنع الكتابة فيه، وأن القارئ لفقرة من كتابه "رأس المال" ليلمس هذا تحديداً.
فالكتابة تستدعي ما لم يقل وما لم يفكر فيه لكي تتخذ من نفسها دلالة مضمونها شاهداً وحيداً لا يشاطرها في ذلك شيء غيرها، إن ماركس يقول: "إن التأمل العلمي في أشكال الحياة البشرية ومن ثم التحليل العلمي لهذه الأشكال يختاران بصورة عامة طريقاً يناقض تطورها الفعلي، وإن قولاً كهذا لا يعدّ فكرة إلا بمقدار ما تنتجه الكتابة وتصدق عليه، حتى لكأن ماركس لم يقل كشفه هذا هو بالذات، ولكنه قال الكتابة بوصفها إختباراً قالت هي فيه ذلك، وإن ماركس ليقول أيضا: "إن كل صوفية عالم البضاعة وكل الغرابات والأشباح التي تصْبب منتجات العمل في ظل سيادة الإنتاج البضعي، كل ذلك يزول في الحال ما أن تنتقل إلى أشكال أخرى للإنتاج وإن قولاً كهذا ليستدعي المستحيل لا لشيء إلا لأن الكتابة صنعت إنتاج الفكر وجعلته له ميسّراً فلا صوفيه عالَم البضايع في الواقع قائمة عياناً، ولا الأشباح التي تضبب منتجات العمل ظاهرة ومرئية.
وإن الكتابة هي التي حيّزت كل ذلك، وقبضت عليه، وجعلته مرئياً، ولذا كانت كتابة ماركس على وجه العموم هي المكان الذي تتكثف فيه اللامرئيات من المخلوقات، فتتصلب، فتتماسك، وتصبح مرئية، وهي لأنها كانت على ذلك قادرة، فقد استجرّت الشبح "من غيبوبة العدم، وجاءت بالطيف من وراء حجات اللارؤية إلى مساحة المشاهدة وحضور المعاينة، وحققت لهذا المستحيل وجوداً يتجاوز الشعور به إلى الملموس والمحسوس أدخلته في المتصوّر وفي ثقافة التعامل مع الأشياء؛ وبهذا المعنى يمكن القول: لقد صيّرت الكتابة ماركس ظاهرة نصيّة، فانداح في عالم الفلسفة حاملة جنازة الصوت، ومرتدياً سواء الحرف.
إلى جانب هذه الفلسفة، كان لماركس فلسفة الإنسان والقناع... القناع الذي اخترعه الإنسان، ويراه بأنه أهم إختراع ليتخلص العاكم من الورطة مع نفسه، في محاولة ليتخلص من مسماه؛ إذ لا شيء أكثر غموضاً وخفاءً من هذا الذي سمته اللغة "العَالَمْ"، أنه كل شيء ولا شيء على حدّ سواء.
ولقد أراد الإنسان بوضعه شيئاً من أشياء هذا العالم أن ينسلّ منه ليكون إزاءه جسداً يمتاز بنفسه، فاخترع ما حدثته به روحه من أساليب، وهو القناع الذي به ينفصل عن العالم، فلا يكون في غيبوبة في مسمّاه المعمّى وبه يختفي عنه، فلا يطوله العالم يوصفه شيئاً من أشيائه... وهكذا ظلّ الإنسان غائباً عن نفسه، فهو لم يكثفها يوماً، وهو لم يقبض عليها طيفاً، واكتفى بالقناع يخفي فيه خفاءه، ويخفي في خفائه إختفاءه يوضعه كائناً مريداً.
وهكذا أصبح وجه إنسان أوروبا العجوز خلف القناع رطباً لكثرة ما تصبب دماً، ثم تخثر فتفكك فتعفّن، ثم صار بدوره قناعاً تحت قناع، وأعلن الموت فيه عن نفسه بأقبح الصور وأكثرها تفززاً.
إن أوروبا تريد أن تدخل الوجود من باب الموت، فهذه العجوز، أوروبا، المتعفنة تحت قناعها أخذت تمسك منذ القرن التاسع عشر بتلابيب الأحياء في كل البقاع وفي كل الأحصار، بل أخذت تخلع قناع موتها على البشر هنا وهناك، فاندلعت حروب خلّفّت من ورائها وماراً ظل نتن الجثث المتراكمة والمتكدسة شاهداً عليها.
وإن رغبة أوروبا في تأكيد وجودها لم يكن إلا عبر طريق هابط أكدت فيه وجودها موتاً، ترى هل كان "كارل ماركس" عبر تجربة الكتابة قد عنى هذا في قوله الذي تحت الإشارة إليه آنفاً؟ ألا يعاني الإنسان المعاصر اليوم من أوروبا الميتة التي تمسك بتلابيبه وتجرّه بكل ما أوتيت من قوة وأبدعت من آلة تدمير إلى مساحة موتها؟.
إن "جاد دريدا" في كتابه هذا لا يفكّ خطاب ماركس فحسب، ولكنه يكرّس الخطاب السؤال للآخر الذي لا يريد أن يموت، ولقد يبدو أن هذا السؤال لا يجد عند "دريدا" سوى مصالحة بين الحياة والموت، ذلك لأنه يقول: "ليس لهذه العبارة معنى ولا يمكنها أن تكون صائبة إلا أن تفسّر إزاء الموت، موتي أنا وكذلك موت الآخر، إنها نفسي بين موت وحياة إذن".
وإذا كان الأمر كذلك، فإن الآخر الأوروبي عبر أديانه ومعتقداته ليطرح السؤال، سؤال الحياة التي يباشر بها مقابل الموت الذي تظلله به أوروبا، وأنه بهذا ليبتعد عنها ويفارقها غير أنه كلما إزداد عنها إبتعاداً بطرحه سؤال الحياة إزدادت منه إقتراباً بطرحها عليه قناع الموت، ولما كانت القوى ليست في مصلحته فإن سؤال الحياة قد أخذ يبدو هو نفسه دامياً، وأخذ يتراجع إلى الحافة الضمنية لوجود حياته نفسها كما أخذ يشعر بالخوف من رؤية الجثث المتعفنة تتراكم في أرضه يوماً بعد يوم.
إن "دريدا" في هذا الكتاب لم يترك للآخر مجالاً لكي يجيب عن نفسه بنفسه، فدريدا أولاً وأخيراً أوروبي يعيش في صراع مع التقاليد الأوروبية على أساس أنه منها ومغاير لها، ولقد يكون في هذا هو الآخر وجهاً من وجوه قناع الموت الأوروبي، ثمة سؤال يبقى أخيراً: إن ماركس قدمات! فهل تراه بوصفه ميتاً قد أمسك بتلابيب الأحياء؟ ولأنه أوروبي أفلا يكون في صراعه مع أوروبا هو الآخر وجهاً من وجوه القناع الأوروبي؟. إقرأ المزيد