تاريخ النشر: 06/11/2014
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:"أخيراً لوّح الفجر بنوره الشرقي الذي بدأ يُنفذ عبر مسام الأرض، مثلما تفعل الماء، والندى، فأصابه نوع غامض من النشوة؛ مرّ اليوم الأول بسلام، وعليّ ان أتابع طريقي حتى نهايتها، وغاية طريقي هو النهر.
أعبره إلى الجهة الأخرى، فسينقضي الأمر، لا أراها ولا تراني، والذي في القلب سيُدْفن معه؛ كان ...يتصور أنه، هكذا، سيضع النقطة الأخيرة في سطر حياته المشتركة معها، ولم يخطر له، أي معنى آخر لهذا الوضع الذي هو في شأنه، اليوم.
عاش إضطرابه، وعذابه، زمناً طويلاً، وقادم التوتر، والإرتياب، بجدارة، وهو، الآن، يكاد يُذهل عندما يستحضر بعض ما مرّ به، فكيف لو وضع كل ما عاناه، دفعة واحدة، أمامه، على الأرض؟... لا بد أن الأمر سيأخذ منحىً آخر، لا يخطر له على بال.
وكأنه أراد أن يواسي نفسه التي امتلأت تردحاً، وأن يشجعها على مواصلة الدرب، صار يتمتم: الحياة تجبرنا على التواطؤ واللامبالاة، غالباً، وقد تدفعنا الظروف إلى قبول ما لا يمكن لنا قبوله؛ ثمة أسباب لا تحصى لكي يخضع المرء، لكن أسباباً قليلة أخرى تكفي، أحياناً لكي تجعله ينتفض، ويرمي الحمل من على ظهره.
بفعل هذا الإحتمال النظريّ البحت، برزت أسنانه البيضاء الكبيرة باسماً، وصار يتمايل بحركة تكاد تكون آلية دون أن يدرك، بشكل دقيق، ما يعتمل في قلبه، وكأنه يكتشف، لأول مرة، حجم الخديعة التي وقعت هي، أيضاً، فيها، قال متعاطفاً معها: عندما تفيق من ذهولها ستعتقد أنني رحلت للأسباب التي تعرفها، هي، جيداً، وأنا أتخذت قراري لأسباب أخرى غير التي نعرفها كلانا.
أسباب لا زلت أنا، نفسي، أندهش عندما أستعيدها، وترعبني حينما أتأملها، وكأن انبثاق الفجر الذي سيكتمل، بعد قليل، خلصه من أعباء عظمى تراكمت في نفسه طيلة الليل وأرهقته، تنفس بعمق، شافطاً برودة أوائل الشفق التي زادته قوة ووضوحاً: "المدهش أنني لم أكن أتوقع أن تدفع بي تلك الأسباب إلى هذا المصير".
كان يتكلم وهو ينظر إلى الشرق بشغف، فرأى الفجر يتورد في الأفق القصيّ، بعيداً، فقال متوثباً، وكأن العالم كله ينتظر خطواته المتعثرة: "حان وقت الرحيل"، وبشكل آلي، تماماً، صار يتطلع حوله، يبحث عمن يودعه، قبل ان يبدأ المسير، ولم يجد سوى الرماد، الرماد البارحة... وبرغم الصمت العميق الذي يحيط به والخلاء، أحس "بسنوات عمره" المليئة بما يحب، وما لا يحبّ، نتدافع في رأسه متدافعة، تريد الخروج.... لكنه أقفل عليها الباب، رأساً، وهو يشير ببدية: خلاص!... وأغمض عينيه، أغمضهما وهو يتكلم، خائفاً من "فرار لمعة الفجر" منها.
لا جدوى من التراجع، بعد الآن، المهم هو العبور بأية وسيلة كانت، فمن لا يعبر سيختنق في مكانه، فهمت؟ يخاطب أحداً يراه بوضوح ماثلاً أمامه كالتيس، ونحن لا نراه، سريعاً عمّ نور الفجر، فتلألأ الفضاء، ففي الجماد الشاسع وسط تلك السهوب اللامحدودة، ينتشر الضوء بلا عوائق، وهو يعف هذا الإنتشار الصاعق للنور منذ أن كان طفلاً.
وفي كل مرة يكاد أن يبكي عندما يرى هذه الظاهرة الكونية التي لم تكن غريبة عليه، لكنها مثيرة للحزن عنده، هم دائماً، كانوا يرحلون في الفجر، وعند الغروب يحطّون الرجال... ولكن، لِمَ تراه، اليوم، صار يخش هذا الرحيل الذي خطط له، وأعدّ كل ما يستطيع من أجل حقيقة بنجاح؟ مَنْ يدري؟ كما كان أبوه يقول في كل مرة يكون فيها متأكداً من الفشل، مجرد تذكر إحتمال الفشل أخافه، محفّز واقفاً يبحث عن الطريق.
هذا اليوم، أيضاً، قبل أن يخطو الخطوة الأولى التي ستليها خطوات كثيرة أخرى، إنجاز، مبتئساً إلى المجهول، لم يخطر له من قبل أن يودّع أحداً... فما أصابه هذا الصباح حتى أخلّ بمأثرته؟ فصار يبحث عمّن يودعه... لم يجد من يودّعه... في ذلك الفجر المليء بالإحتمالات... لا الثعلب عاد... ولا أحد يمر... ولا شَجَر يتمايل بفعل الريح ملوحاً له: وداعاً قهر وإقصاء وإستلاب... وإنسان ينتفض في غفلة من الزمن... في غفلة من الإنصياع... راحلاً إلى حيث لا مكان... لا زمان... في مشوار بحثاً عن ذاتٍ انتقدها ذات حين.
يصور الكاتب وببراعة ذاك الجرح الكامن في أعماق النفس الإنسانية... جرح الكرامة... وجرح الإقصاء... والذي يظل دامياً إلى حين لحظة غير موعودة تجعل صاحبه يثور على نفسه الخانعة المتآكلة حقوقها وكرامتها ويمضي، ورغم وعورة الرحيل وعذاباته... يمضي مقتفياً أثر تلك الذات التي كانها في ذلك الزمن البعيد، تلك الذات بكل مقوماتها التي صنعت منه رجلاً بكل ما تعنيه الكلمة من معاني رواية تقتفي أثر رحلة الإنسان المقهور في أعماق ذاته بدقة وبراعة. إقرأ المزيد