تاريخ النشر: 01/01/2010
الناشر: دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع
نبذة نيل وفرات:"بعد هذه الأشهر من إنتهاء الحرب، أجلس رويداً في البيت أفكر في حياة المحرقة التي سلمتها إلى محمود نوري عندما تسلمت أمر تسريحي من الخدمة، لقد جاهدت كثيراً وأنا أقتلع من هناك، وربما علي أن أفسر بعض الأمور التي بقيت تشغلني حتى هذه اللحظات.
فمنذ أن عدت من الحرب قبل ...أشهر وأنا أضاف الخروج، أفكر بليليان التي هربت منها بسرعة من دون أن أبدي أية مقاومة للتمسك بها، أفكر بأصدقائي الذين لم أرهم منذ أن عدت، بدا أنني بحاجة إلى البقاء لوحدي، لقد تركت العالم في الخارج يحتفل بنهاية الحرب، ولم أشاركهم مشاعرهم تلك، لأنني لم أزل أخوض حرباً ضاربة مع نفسي، والذي لا أفهمه هو هذا الحنين لأيام السجن والمحرقة، وصدى نغمات ناي كما نتدفق حزينة تمزق لحن حياتنا التي خربت بمنتهى الوحشية.
لم أعد من الحرب بشيء سوى قلب مجروح ومكتبة محسن وليليان المكدستين في مخزن البيت في الطابق العلوي، طلبت من ليليان ذلك قبل أن تنتهي الحرب فكنت أنقل منها صندوقاً كلما جئت إلى بغداد، أما محسن فلم أر حرجاً من تجميع تلك الكتب التي بقيت الشاهد الوحيد عليه وشحنتها في القطار إلى بغداد.
أنا هنا أجتر ذكرياتي، أهرب منها وأشتاق إليها في آن، ربما خرجت من الحرب سليم الجسد لكن شيئاً ما يسبب لي الغموض في داخلي يحاصرني على شكل صور مفزعة، أشعر بأنني مريض في حواس وفي وعيي، أمر يدفعني إلى الهروب من الآخرين، فأنام لأسابيع وأقوم على صوت فيه سيارة منير، أفتح الباب وأفاجأ برسالة من لندن تحمل إمضاء محسن الربيعي الذي تركني وهرب ذات يوم، كما فعلها إنسان ودمّر حياتي.
لقد أصبحت عقدة خوفي من ترك الآخرين لي حالتي المرضية، فكنت أصارع تلك الأفكار اللعينة التي تراودني وتسبب لي الكثير من العذاب لماذا يتركني كل هؤلاء بعد أن أدمن حياتهم ووجودهم قربي؟ أقلب رسالة محسن بين يدي، تسقط صورة صغيرة تجمعه وزوجته التي احتلت ضحكتها مساحة وجهها، فكانت كلمات الإعتذار التي أرسلها محسن من لندن تلخص هروبه عن طريق كردستان بلغة خلاص معذبة، لكن نظرته وهو يقف إلى جانب زوجته شاردة ترنو إلى ابنته التي عند شقيقته، نظرة تلخص مشهد آلاف الأطراف التي حرقها، تلك اليد التي تطوق خصر الزوجة الإنكليزية قد لامست آلاف الملابس الممزقة وتلك الأطراف المرتعشة التي بترت بقلب حيث كان يتحدث كمن يرمي بكلماته من الجنة نحو بئر الظلمة.
حرب وحكاية لا تصدق، حكاية منذ عَرِفْتَ آخر خيوطها عرفت وكقارئ بداياتها وحبكتها... وقبل ذلك كله أخبرك العنوان ولو بشكل تقريبي عن تلك المأساة التي عاشها الراوي... حرب كان قدره أن يعيشها ويعيش قذارتها... وكيف لا وقد كان عمله ينحصر في حياته الاولى في لبس بذلة عمل من الكتان الأزرق الداكن كل صباح، ليقوم بجمع الأطراف البشرية المبتورة التي تجلبها الناقلات العسكرية من المستشفيات في مدينة البصرة، ليدفعها بدوره إلى جوف المحرقة الحديدية، بإنتظار إلى أن تتحول إلى رماد أسود ناعم...
وها هو في حكايته يحاول إستعادة ما حدث، وسعادة تغمره لإهتدائه إلى هذه الفكرة، موهماً نفسه بالتحدث إلى شخص لا علاقة له به، الأمر الذي أشعره بحرية لا توصف، فهو وكلما ذكر شيئاً شعر بأنه يقوم بذلك لفهم ما حدث له في حياته الأولى وكيفية وصوله إلى المحرقة... وواقع الأمر أنه يستعبد ذكرى حياة طالب الهندسة... حياته التي لم يزل يتعلق بظلالها بشغف... ويستعيدها من خلال رواية تفاصيلها هذه. إقرأ المزيد