تاريخ النشر: 01/02/2003
الناشر: منشورات الجمل
نبذة نيل وفرات:العشق في موروثنا الأدبي مؤسس على تناقض واقع بين حركة الشوق الدافعة، الطبيعة في ما سمي بـ"الحب الطبيعي"، واصطناع الحدود المانعة، التي تجعل الشوق فوق المؤسسات، ولكنها في الوقت نفسه، تصنع منه كائناً خيالياً رمزياً لا يكاد يحتمل الوجود. لم يكن القدامى يدركون مدى غرابة هذا المخلوق الذي ابتدعوه: ...شوق بلا لقاء، شوق بلا حركة، عشق بلا شوق، عشق للمنع، متعة بالمنع، عشق للسلطة المانعة ذاتها، عشق بدون عشق.
هذا المخلوق لا يقوى على الوجود؛ إلا في الشعر ربما، وحتى في الشعر والأخبار، فهو لا يقوى على الوجود، لأن العاشق الذي هذا وصفه يكون خبر عشقه خبر موته، كما جعلوا مجال التعدد الزواج، ولم يقبلوا تعدد المعشوقات. وجعلوا الغيرة قيمة أخلاقية، ولم يفكروا في علاقات ينبني فيها الحب على احترام غيرية الآخر، عوض اعتبار الآخر غيراً للنفس، ممنوعاً عن الغير الآخرين.
وقد ظن القدماء، في الغالب، أن العفّة هي التي تحمي المعشوق من الابتذال، وتحمي الحب من الزوال، وفاتهم في الغالب، استحالة تحقيق الشوق، تجدده المبرح، استحالة المسك بالجسر المعشوق، روحانية الجسد المعشوق، إلهية العشق على نحو يبطل معه مفهوم "الحب الطبيعي" على نحو يجعل المعشوق، بل الجسد المعشوق ذاته جوهراً نورانياً تحار فيه الأوهام والأفهام. فالحب المطلق أخطأ الطلق في الحب، وظل يصور حالات انفعال مبالغ فيها، اعتبرت أحوال "أهل التمام" من العشق. الطموح إلى العشق المطلق قد يؤدي إلى نفي العشق، أو عشق لا شيء.
من جانب آخر، وعندما أعلى العشاق من شأن المرأة في الحب العذريّ، واعتبروها "صديقاً" أفرغوها من الجسد، وجعلوها كائناً غير أرضي. وعندما اعتبروها كائناً أرضياً جسدياً في الأشعار الجاهلية أو في أشعار بعض المتأخرين كالمتنبي، عادت صور القنص والفتك والامتلاك، وكانت المرأة متاعاً نفيساً يخفر الشاعر بالظفر به رغم غيرة القوم وكثرة الأعداء. عندما وصفوا امتلاك الأجساد والالتذاذ بها لم تكن هذه الأجساد معشوقة، بل كانت ممتلكة، والمعشوق لا يمتلك.
ثم إن ما يلاحظه الباعث في النصوص العربية من وجهة زمانية هو ربما تنامي النرجسية الذكورية والامتلاء الرجولي المنافيين للافتقار وللحب: ابتداء من القرن الرابع عاد المتنبي ومقلدوه، كابن خفاجة الأندلسي، إلى صور الحماسة القديمة فيما سمي بـ"لفّ الحماسة بالغزل"، وعادت المعشوقة قنيصة صامتة.
وما يلفت الانتباه هو استمرار هذه الكوكبة الضخمة من التصورات الرجالية النافية للعشق وللافتقار، وتواصل الصور السّدمية في أشعارنا وأغانينا المعاصرة، بل تواصل نمذجة الحب العذري والسّدمي عموماً، واستمرار الإعلاء من شأنه في كتب منتخبات "شهداء العشق"، وهي كتب تجمع نصوصاً قديمة تقدم للاستهلاك على نطاق واسع، وما يلفت الانتباه أيضاً هو امتداد صورة مجنون ليلى، لا في العشق فحسب بل في كل ما تنتجه من صور تصف علاقة الإنسان العربي بالأصل، إنه ليس ذاتاً فردية: إنه ومن خلال كونه نتاج قومي، بدا المجنون صورة نموذجية تختزل وضعية العاشق السّدمي، إلا أنها تمثل وضعية أساسية مأساوية من وضعيات الذات العربية: إنها ذات ضعيفة تنغلق على نفسها، وتبتني المدينة داخلها، تقف على الأطلال للبكاء لا لإدراك استحالة الأصل، وغياب مدلول الطلل، تصعق كما صعق موسى، ولكنها تعجز عن إدراك استحالة الرؤية.
هكذا حاولت رجاء بن سلامة تفكيك صرح العشق، متوسلة في ذلك بفكر التفكيك، وبالتفكيك المخصوص الذي تقوم به المعرفة التحليلية النفسية عندما تروم "تحويل الميتافيزيقا إلى ميتابسيكولوجيا". ساعدت هذه المعرفة الباحثة على ترجمة التصورات والأوهام العشقية، أي على عملية تحويل لا يمكن لأي قراءة أن تتم بدونها: ترجمة العفة العذرية و"تنظيم لمنع الحبيبة" أو بـ"ايروسية تستمد المتعة من الوقوف على عتبة المتعة"، أو منوع من مقاربة الإثم دون الوقوع فيه، وترجمة الفضيلة والزهد بـ"متعة بالمازوشية الأخلاقية" وترجمة الشيطان الموسوس في الصدور بالشهوة المرفوضة، لا سيما أنه ناريّ من جنس الطاقة الشوقية التي يصورها الشعراء، وترجمة المس (Passession) الذي بينت الباحثة أهميته في تصورات العشق برفض الشوق وإسقاطه على الجنّي بتحويل الشوق إليه، وترجمة الاعتلال من شدة العشق برفض للعشق، وترجمة الموت اثر الحبيب الميت، أو على قبره برفض عمل الحداد، وبابتلاع الحبيب الميت ومحاكاته في موته، والعدول عن اعتبار هذا الموت مجرّد وفاء للحبيب، ولم تكتف الباحثة في دراستها هذه بتفكيك صرح العشق فحسب، بل اتجه تفكيرها إلى ثلاثة صروح معرفية وجمالية هي:
1-منظومة البيان باعتبارها منظومة ميتافيزيقية، 2-صرح الدراسات التقليدية عربية كانت أو استشراقية، 3-صرح ما يعرف بـ"المناهج الحديثة"، التي يتوسل إليها الراغبون في تطوير أبحاثهم في الأدب. أما مجموعة النصوص التي اعتمدتها فهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: 1-النصوص الشعرية الغزلية. 2-أخبار العشاق. 3-الجهاز التنظيري والمعياري الذي أحيط بالعشق وبما أنتج من نصوص عشقية، وباعتماد الباحثة إياه استجابة إلى حاجتها في البحث في تصورات العشق. بالإضافة إلى أن كتب العشق والأدب والنقد التي قامت بهذا الدور المعياري كانت في الوقت نفسه وعاء للشعر وللأخبار.نبذة الناشر:ينطلق هذا البحث من النصوص، الأدبية منها خاصة، إلا أنه لا يدرس هذه النصوص لذاتها، بل باعتبارها مظهراً من مظاهر الموروث العربي الإسلامي، ولا يدرس هذا الموروث أيضاً في حدّ ذاته، بل يستنطقه انطلاقاً من هزّاتنا الحديثة وبالعودة إليها.
خطاب العشق وكلماته القديمة ما زالت أصداؤها فاعلة فينا مترددة في أغلب أغانينا، وصوره الأدبية المختلفة ما زال الكثير منها يتماهى معها من حيث يعي بذلك أو لا يعي، وشهداء العشق ما زالت تراجمهم القصيرة قصر حيواتهم تنشر ويعاد نشرها، وتعرض للاستهلاك على نطاق واسع، وماضي الغزل في القرن الأوّل الهجري، في جانبه "العذري" على الأقلّ، ما زال يعدّ أصلاً فردوسياً يلوذ إليه من يعتبر أن زمان الحبّ "الأصيل" قد ولّى وانقضى. فعلى هذا الأساس درسنا العشق ونصوصه. إقرأ المزيد