تاريخ النشر: 01/01/1982
الناشر: دار العودة
نبذة نيل وفرات:"نفثة" ظمآنُ ظمآنُ لا صوب الغمام ولا عذب المدام ولا الأنداء ترويني/ حيرانُ حيرانُ لا نجم السماء ولا معالم الأرض في الغمّاء تهديني/ يقظانُ يقظانُ لا طبيب الرقاد يداويني، ولا سمر السمّار يلهيني/ غصّانُ غصّانُ لا الأوجاع تبليني ولا الكوارث والأشجان تُبكيني/ شعري دموعي وما بالشعر من عوضٍ عن ...الدموع نفاها جفن محزون/... سأمانُ سأمانُ لا صفو الحياة ولا عجب القدر المكنون تعنيني/ أصاحب الدهر لا قلب فيسعدني على الزمان ولا خِلّ فيأسوني/ يديك فامحُ ضنىً يا وت في كبدي فلست تمحوه إلّا حين تمحوني.... .
إذا سئلت "أي العقادين أخلد؟" لقلت بلا تردد "هو العقاد الشاعر" وهي نبوءة قد لا يوافقني عليها الكثيرون؛ بل قد يعارضونها، لأنهم يعتقدون أن العقار مؤلف العبقريات وفيلسوف الإسلام الذي جدد للإسلام شبابه في هذا القرن أولى بالخلود.
أو يعتقدون أن العقاد الناقد الذي أنتج للعرب أول مذهب نظري متكامل في النقد، والذي طبّق هذا المذهب ببراعة منقطعة النظير على شعراء الشرق والغرب، والذي خاض بمذهبه هذا معارك أدبية ضارية كالبراكين، خلّفت تراثاً خصباً كتراث البراكين، أحق وأولى بالخلود. ولربما اعتقد البعض أنّ العقاد الصحفي، فاتح الفتح في المقالة الصحفية، سياسية وأدبية، هو أحق الجماعة بالخلود. إلّا أنني مع هذا أعتقد أن عقاد الشاعر هو أخلدهم أجمعين. أولاً: لأن الشعر من بين سائر أنماط الأدب عمل خلّاق وخالد، إذ لا يغني عن القديم منه الحديث وإن جاد، ثانياً: لأن الشعر وجدان يخالط الوجدان من القارئ، فلا يلبث القارئ أن يشعر أن الشعر شعره، وأنّه مؤلفه في ملكيته سواء، وثالثاً: لان عبقرية العقاد قد ارتفعت في الشعر إلى شأوها الأعلى، فكان أن أُخرج للعرب المحدثين ديواناً يصور إنساناً لا موظفاً في ديوان، وانساناً شاعراً لا مجرّد ذي شارة اجتماعية و لقب، وشاعراً عظيماً لا أي شاعر كيفما كان الشعراء. وكأنما أراد الله أن يكمل هذه الصورة الرائعة فحدّ في غيره حتى يرينا من شعره في أطوار عمره أفانين ومبتكرات يضيق عنها الشباب، كغزل الشيخ الكبير ومحاولته التوفيق بين شرة الغزل ووقار السن والمقام والشهرة، وهو مالا نجده عند غيره من الشعراء أجمعين. فديوان "بعد الأعاصير" مثلاً، يختلف اختلافاً بيناً عن "يقظة الصباح" أو "وهج الظهيرة"، ولولا خصائص فيها تُنْمِيهْا كلها إلى شخص واحد، لأوقعت الشكّ في النفوس أنها لغير واحد من الشعراء؛ لأن الاختلاف بينها كالاختلاف في مظهر العقاد ابن الثلاثين والعقاد ابن التسعين ثم السبعين. وتطالعك دواوين العقاد المتأخرة بنصيب أكبر من قصائد الرثاء والتأبين مع قلّة هذا النوع في الدواوين الباكرة. ولم تكن هذه الخاصّة المتنوعة بالميزة الوحيدة لشعر العقاد؛ فهناك عظمة الموضوعات التي روّض العقاد الشعر لها وذلله لمركبها؛ فكان أول شاعر عربي له ديوان في التغنّي بالطمير والحيوان، وفي الإشارة بدولة ودولة الطريق...
وفي شعر العقاد تجديد، تجديد في الشكل وفي المضمون، وارتفاع بالشعر العربي من ربقه القديم وقيوده إلى انطلاق الحديث وحريته، حتى لقد اتسع شعره للمقطوعة ذات البيتين والثلاثة الأبيات، كما اتسع للملحمة الكبيرة التي تنتظم الآلهة والملائكة والشياطين والناس في سياق. وفي شعر العقّاد أسلوب عربي مشوّق وجميل، قلّ أن تجد له مثيلاً في القرن العشرين، يتمشى مع موضوعه .. يتخذ سمت الوقار حين ينبغي الوقار، وينزل إلى حلّته الرقص في الراقصين.
انظر إليه في وقاره إذ يقول في معبد "أنس الوجود": عبرنا إليه النهر ليلاً، كأننا... عبرنا من الماضي إلى الضفّة الأخرى/ قضى نحبه فيه الزمان الذي مضى... فكان له رسماً، وكان له قبراً/ وأشهدنا فيه شخوصاً كأنّها.. مساحير ترجو كاهناً يبطل السحرا / فيبطل ذاك القلب بعد سكونه.. ويملأ من أهوائه ذلك الصدرا.
ثم انظر إليه في الأربعين كيف يرقُص ويُرقص إذ يقول: يا ويح قلبك من هدف... صال المسدّد أم صدف/ بين الملاح المفرغات من الأشعة والسدف/ سمر كما أسمر الجنى.. بيض كما أبيض الصدف/ كشف الخضم طلاءهن.. ولا حجاب لما كشف...
أمّا بعد فهذا ديوان العقّاد كاملاً، فيه ما نشره من شعره في دواوينه وما نشره في "ديوان من دواوين" وما نشره في الصحف بعد صدور الدواوين، وليس فيه ما زوى العقاد عنه عينيه كتلك القصائد التي أشار إلى حذفها من "وحي الأربعين" مراعاة للإئتلاف، وكلها من الشعر السياسي، وكتلك التي نشرها في جريدة "البلاغ" أو جريدة "الدستور" أو غيرهما. إقرأ المزيد