تاريخ النشر: 01/08/2018
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:" تركني صديقي بشير الذي أتى إلى لبنان قبل يومين ، تركني لوحدي داخل قاعة العرض حتى يتابع هو أمور تحضير وترتيب المعرض قبل افتتاحه بعد يومين أو ثلاثة . أقف في إحدى مساحات صغيرة باستخدام قواطع جدارية بيضاء يرتفع كل منها ثلاثة أمتار . وقد خصصت كل من ...تلك المساحات الصغيرة لموضوع معين من اللوحات أو للوحات فنان معين . وها أنا أقف في إحدى هذه الساحات أستمتع بمشاهدة لوحة من أكثر اللوحات المفضلة لدي إن لم تكن أكثرها تفضيلاً . إنها لوحة موندريات المقسمة إلى مربعات ومستطيلات كل منها ملون بلون واحد إما أحمر ، أو أصفر أو أزرق أو أبيض ، وخطوط سوداء تحدد حدود كل مستطيل . هذه اللوحة التي أعشقها ، إنها أمامي ، اللوحة الأصلية أمامي على بعد سنتيمترات من يدي . هذه اللوحة التي أملك نسخة منها في مكتبي وأشاهدها كل يوم ، والتي توفر جماليتها علاجاً نفسياً لي وراحة بال . هذه اللوحة أمامي . كم هو إحساس رائع ورهيب أن ترى شيئاً مشهوراً على مستوى العالم كله ... تراه أمامك . أقف مبتسماً أراقب اللوحة وأدرس تفاصيل مستطيلاتها وخطوطها السوداء ، وإذ فجأة ، شعرت بالقشعريرة تسري في بدني وبدأت الخطوط السوداء تتحرك وتتلوى ، وكأنها ثعبان أو ثعابين تقوم من سبات عميق طويل ، أو كأنها عصا موسى بدأت تتحرك بقدرة قادر . فتحت عيني على أشدهما ونظرت مرة أخرى فبدت اللوحة طبيعية . نظرت إلى مكان آخر فبدا كل شيء طبيعياً . أعدت النظر إلى لوحة موندريان مرة أخرى . فبدت اللوحة طبيعية ، فكانت قد عادت إلى شكلها العادي ، فركت عينيّ حتى أتأكد فكانت كذلك ؛ إلا أنني لم أعد أرى فيها ما كنت أراه من جمالية والذي كان قد أحببني فيها . لقد بدت المستطيلات نقطة مفصولة عن بعضها البعض ، وحتى المستطيلات البيضاء بينها لم تكن لتوحد اللوحة وتجعل من الأجزاء وحدة متكاملة ؛ بل بدت وكأن الألوان المختلفة تحتاج إلى اللون الأبيض المحايد بينها ليفصلها عن بعضها البعض ، بدل أن يوحدها في اللوحة ، بينما بدت الخطوط السوداء كثعابين فصل بين المستطيلات ، ولتؤكد عدم اندماج هذا اللون بذاك ، حتى يحافظ كل لون على شخصيته وتكوينه ، وكي لا يتأثر بالألوان الأخرى وتشويه الشوائب منها . ولأول مرة منذ بدأت أعي فن موندريان ، بدت لي تلك اللوحة فاقدة للوحدة في تكوينها ، وأن انفصال الألوان لا يخدم اللوحة من هذه الناحية ؛ بل يجسّد ويؤكد على تقسيمها وعدم اندماجها . ما هذا الذي يحدث لي وللوحة ؟ كيف حصل هذا ؟ كيف تغيرت نظرتي لها ؟ هذه اللوحة التي كانت مصدر راحة نفسية لي وكنت أنظر إليها يومياً لتخفيف حدة توتري من العمل أو من أمور الحياة الأخرى ، كيف تغيرت ؟ إنها نفسها هي التي في مكتبي منذ سنوات وسنوات بالألوان والخطوط والمستطيلات نفسها . هل حدث لعقلي خلل ما ؟ أم أنني لم أعد أرى جيداً ؟ لا أكاد أفقه شيئاً مما يحصل ؟ أقود سيارتي متجهاً من منطقة المزرعة في بيروت إلى سن الفيل للقاء صديقي بشير الذي حضر من أمريكا مساء أمس . الشوق للقائه بعد هذا الغياب الطويل يقتلني ، ولكن صوت المذياع أو بالأحرى صوت مذيع الأخبار يقتلني أكثر ، وأكثر ما يقتلني في هذه اللحظة هو هذا الإزدحام المروري المجنون . لم تكن الأخبار على مدى الأسابيع السابقة أو حتى الأشهر السابقة جيدة ، ولم تكن تبشر بأي تفاؤل ؛ وكأن التفاؤل والبشرى ليسا من حق لبنان ومن في لبنان ، ولا يهم في أي اتجاه يذهب فالمطبات والشراك في كل مكان واتجاه . فهي إما حرب ، أو إشتباك مسلح أو اشتباك برلماني أو تعطيل للرئاسة والحكومة ، حتى أصبح البلد في مراحل عدة بلا رئيس أو حكومة أو جيش ، أو دونهم كلهم في الوقت نفسه . ولو توفر لعامة الشعب السفر والهجرة لأصبح البلد بلا شعب أيضاً . ولعل هذه فكرة معقولة ؛ إذ إنها قد تنتهي كل هذه المشاكل السياسية والطائفية المسلحة ولكن الشعب مسكين - ليس بيده حيلة وإنما يخضع ، عن قناعة أو في وراثة أو حتى بالسليقة ، يخضع لقانون القطعان فيتّبع كلٌ فصيله " يطوف بك الروائي في بيروت .. شوارعها أزقتها .. ناسها .. ويقرأ معك سطور مأساتها من خلال شخصيات مثلت نماذج لما أفرزته الحرب التي أطلق عليها زوراً " أهلية " وكان التاريخ يعيد نفسه فيما أطلق عليه اليوم " الربيع العربي " لتكتشف تلك المأساة التي تخطت لبنان إلى العالم العربي كله ... وكأن ذلك الكابوس الذي عاشه لبنان وناسه حفر في عمق الروائي كما الراوي فتحولت تلك اللوحة الجميلة لماندريان والتي كان يزين مكتبه بنسخة بها والتي كانت من أجمل اللوحات لديه وأكثرها محبة لعلمه بألوانها " وقعت مقابلها أتفرج عليها .. وأخذت أعاين تفاصيل لوحة موندريان . كانت المستطيلات المختلفة الألوان زاهية بألوانها الحمراء والصفراء والزرقاء ، وبينها مستطيلان بيضاء بينما الخطوط السوداء كفواصل بين كل مستطيل وآخر .. " وكأن تلك اللوحة الجميلة التي احتلت في لا وعيه ذاكرة لبنان الأخضر الجميل تجولت في وعي الروائي إلى لوحة رأس فيها رسم لبنان بحاضره المقيت ... وواقعه المأساوي السوداوي ... " . ولكن فجأة شعرت بالقشعريرة تسري في بدني ، وبدأت الخطوط السوداء تتحرك وتتلوى وكأنها ثعبان أو ثعابين تقوم من سبات عميق .. فركت عيني .. إلا أنني لم أعد أرى فيها ما كنت أراه من جمالية ... والذي كان قد حببني فيها ، بل بدت المستطيلات البيضاء لم تكن لتوحد اللوحة وتجعل من الأجزاء وحدة متكاملة ، بل بدت وكأن الألوان المختلفة تحتاج إلى اللون البيض المحايد .... " . إقرأ المزيد