تاريخ النشر: 16/02/2018
الناشر: دار المدى للطباعة والنشر والتوزيع
نبذة الناشر:تأفف العم عبد الواحد، ومدّ يده وتناول علبة السيكائر من على الأرض، وأشعل سيكارة، وملأ صدره بدخانها الجاف، تنحنح ونظف صدره، وأحس بأنه ينفث مع الدخان همّا ملبداً في صدره، وسُماً كان يسري في روحه، حتى أحسّ براحة خاطفة، عندما خفف الثقل الذي يجثم عليه، وغاب عن الدنيا وهمومها في ...لحظة من السهوم والنسيان، فتصور أن حسيبة ما تزال في البيت لم تغادره، وأن ذلك مجرد وهم، وسوء ظن، كما امتلأ قلبه منها في الأسابيع القليلة الماضية من رعونة وعدم إكتراث وتجاهل للمصيبة التي هي فيها... أو ربما خرجت حقاً، وقد عادت الآن، ووقعت على رأس عمتها لثماً وتقبيلاً، مبللة إياه بدموع الندم والحسرة، قائلة: "عمة! كنت مضايقة فخرجّت أشم الهواء وتهت في الدروب، بغداد القديمة تهدمت، ولم يبق منها غير خرائب، وبغداد الجديدة شوارع يتيه فيها الناس، وداخ رأسي، وشعرت وكأنني في ولاية أخرى".
وللحظة يصدق عبد الواحد بهذا الهاجس، ويعطيها العذر، صحيح! يقول لنفسه، بغداد العتيقة صارت منخلاً خرائب بابل، وأنا، في هذا العمر أحس أحياناً بأن رأسي يدور مبل البروانة!...
ويتخذ تفكير عبد الواحد مساراً آخر، لعلها حنّت إلى بيتها القديم حقاً، كم مرة حنّ هو الآخر إلى بيته القديم، البيت الذي تربى فيه، وتزوج، وأنجب، وزرع سني عمره في أرضه المتربة.
رغم إنه يقض سحابة نهاره في حي لا يختلف شخطة واحدة عن حبه السابق، فكيف هي التي لم تخرج مرة واحدة خلال ثلاثة أعوام؟ ثم يعود فيقول لنفسه: ولكن إلى أي شيء نحن؟...إلى خرابة؟ حتى الخرابة يمكن أنْ تحن إليها، إذا تركت عزيزاً فيها، ولكن أي عزيز تركت حسيبة؟... تركت... تركت عمتها... أو تلك التي تسميها عمة، كل شيء جائز في هذه الدنيا، وربما رغرغت روحها بعد هذه السنين الطويلة، ركبها الشوق إلى حياتها الأولى مثلما يركب جني إنساناً، وخرجت لشمة هوا.
كل إنسان تمرّ فيه اوقات يريد أنْ يتخلى فيها عن كل شيء يهجر كل شيء، يهرب حتى من جلده، ليبقى هو ونفسه، وجهاً لوجه، خرجت حسيبة من بيت عمّها، وعبرت الشارع المقابل للبيت، وسارت في شارع مجاور، ودمدمت مع نفسها، وأخذتها العرامة والضيق أو تنفست رائحة زمان، ونسيت البيت والزوج، العم والعمة، ونفسها أيضاً، تاهت في شوارع بغداد، كل شارع بعرض النهر. إقرأ المزيد