تاريخ النشر: 01/01/1974
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:كان القرن التاسع عشر حافلاً بالشخصيات العظيمة ونوادر الرجال، سواء في ميادين الفلسفة أو العلم أو الأدب أو السياسة. وقد كان جوزيف متزيني الزعيم الوطني الإيطالي من أشهر زعماء ذلك القرن وقادته السياسيين، ولا أحسبني مبالغاً إذا قلت إنه كان أنبلهم جميعاً منزعاً. وأنقاهم صفحة، وأسماهم مثالية. وأخلصهم نية، ...وأطهرهم نفساً. وأعفهم ذيلاً، وأمضاهم عزماً، وأصبهم على احتمال التضحية، وممارسة الشدائد، ومصابرة الخطوب.
تألبت عليه الدول والحكومات، وطاردته مطاردة عنيفة، واضطهدته ما وسعها الاضطهاد، وحاربه الأقوياء أصحاب النفوذ والسلطان الذين يحاربون بكل سلاح، ونصبوا له الحبائل والشباك، ولم يعفوا عن ثلبه ورميه بكل نقيصة، وقذفه بمختلف التهم، وتنكر له الأتباع الزملاء والأصدقاء، ونكثوا عهده، ولم يرعوا ذمامه، وخرج عليه طارقون، وخانه الخائنون، فلم يهن عزمه، ولم ينفد صبره، وانتابته الآلام الفكرية والحسدية، وهزت كيانه الأزمات النفسية، وخاض غمار المعارك الداخلية الروحية، ويبقة بعد ذلك كله سليم العقيدة، قوي الأمل.
وكانت أمته مصدوعة الوحدة، متفرقة الشمل. قد تناهبتها الدول، واقتسمها الأمراء الأجانب، وأنهكها الفقر وسوء الحكم. وجللها العار، وساءت سمعتها بين الأمم حتى قال بعض الناس إنها أمة ليس لها وجود. وإنها ليست سوى اصطلاح جغرافي. ولكن ذلك لم يرخص قدرها عنده. ولم يضعف حبه لها، وتعلقه بها، وكانت همومها وأحزانها همومه وأحزانه، وكانت نكبتها نكبته، وقد قضى حياته في محاولة استنقاذها من الجهل والظلم والاستعباد، ورد وحدتها، وإعادة استقلالها، واحتمل في سبيل ذلك الفقر والحرمان، والحبس والتشريد، والنفي والاستهداف للمكاره والعدوات والخصومات، وبذل جهوداً حبارة، وعاش عيشة لا تعرف الراحة واللا المتعة ولا الاستقرار.
كان متزيني يخفق في محاولاته، ويخونه التوفيق، والإخفاق المتكرر قد يستذل الإنسان، ويجعله يسيء الظن بقدرته، ويشك في تحقيق غايته، ويغري به اليأس، ويثني عزيمته، ولكن متزيني كان له من يقينه الثابت وأمله العريض ونظره الثاقب البعيد وقوة احتماله وعمق عاطفته القومية ومدى فهمه للحركات التاريخية والنهضات الوطنية ما يهون عليه احتمال الهزائم، والصبر على الإخفاق، ومتابعة الجهاد، ومواصلة السعي، ورصد الجو، واغتنام الفرص، ومراقبة الأحوال بعين لا تغفل ولا تنام، والعمل على الاستفادة من كل موقف، واستغلال كل مناسبة، والحياة في رأى متزيني معركة بين الخير والشر، والتقدم والرجعية والعبودية والحرية، فكيف يستسلم في هذه المعركة، ويلقى السلاح، ويفر من الميدان؟ ولقد كانت الهزائم المتوالية تزيده إقداماً، ويقيناً، وصبراً وثباتاً، وتجعله يحاول من جديد أن يستصلح ما فسد ويعيد بناء ما تهدم، ويراجع خططه، ويجدد نشاطه، ويستأنف جهاده، غير عابئ بوعورة الطريق، وبعد المرتقي وصعوبته، ولم يكتف بالدفاع عن قضية بلاده وحدها بل دافع كذلك عن قضايا الأمم المسلوبة الحرية، وكل أمة في دور استكمال استقلالها واستبقاء وحدتها تجد في حياة متزيني بوجه خاص درساً نافعاً. وعبرة صالحة، وكانت وطنيته وطنية واسعة النطاق إنسانية شاملة، ولم تكن القومية عنده غاية في ذاتها، وإنما كانت خطوة لازمة للأممية والوحدة العالمية. ورسالته لم تكن مقصورة على أمته وعصره، وإنما كانت رسالة عامة شاملة تتجاوز أمته، وتترامى إلى ما بعد عصره، وغايتها حرية الأمم والأفراد في ظل الدمقراطية الحقة. والنظام الأممي العادل، والإنسانية المتحابة المتضامنة. وكان رجلاً واضح التفكير إلى حد كبير، له منطق خلاب ليس فيه جفاف وإنما له نضارة وفيه عذوبة ومائية، وأسلوبه بليغ ولكنها ليست البلاغة الصناعية التي تتعمد التأثير، وتحتال على الإقناع، وإنما بلاغة الكلام الصادر من القلب ليدخل إلى القلب، في هذا الكتاب عرض لحياته الحافلة بالمفارقاتوحديث عن أفكاره ونظراته وآرائه وفلسفة حياته. إقرأ المزيد