تاريخ النشر: 01/01/1969
الناشر: دار الكتاب العربي
نبذة نيل وفرات:كان للإسلام أثران في عقلية العرب من ناحيتين مختلفتين: الأولى ناحية مباشرة، وهي تعاليمه التي أتى بها مخالفاً عقائد العرب، الثانية ناحية غير مباشرة، وهي أن الإسلام مكّن العرب من فتح فارس ومستعمرات الروم، وهما أمتان عظيمتان تحملان أرقى مدينة في ذلك العهد، فكان من أثر الفتح وضع البلاء ...وما فيها من نظم وعلم وفلسفة تحت أعين العرب، فتسربت مدينتهما إلى المسلمين، وتأثرت بها عقليتهم.
وإلى ذلك، فقد كان للإسلام أثر كبير في تغيير قيمة الأشياء والأخلاق في نظر العرب، فارتفعت قيمة أشياء وانخفضت قيمة أخرى، وأصبحت مقومات الحياة في نظرهم غيرها بالأمس، وقد لاقى النبي صلى الله عليه وسلم صعوبات كبرى - في نقلهم من عقلية الجاهلية إلى عقليتهم الإسلامية، كما احتمل المسلمون السابقون من العذاب كثيراً، حتى اضطر كثير منهم بعد خمس سنوات من الدعوة أن يهاجروا إلى قطر نصراني، وهو الحبشة يلجأون إليه، فهاجر نحو مائة ممن أسلم، وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مع عدد قليل من أصحابه، ولم ينتشر الإسلام، وبعبارة أخرى لم تنتشر العقلية الجديدة إلا بعد الهجرة إلى المدينة وانهزام قريش حربياً.
وحقاً أن هذا النزاع بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش أولاً، ثم بين المدنيين والمكيين ثانياً، ثم بين من دخلوا من العرب في الإسلام ومن لم يدخلوا؛ إنما هو نزاع بين عقليتين: عقلية وثنية تباح فيها اللذائذ، وتمنح فيها الحرية إلى حدٍّ بعيد، وتقدّر فيها الأخلاق تقديراً خاصاً؛ وعقلية أخرى موحّد تداس فيها الأصنام دوساً، وتمتهن بكل أنواع الإمتهان، وتكسر من غير هوادة، ولا تباح اللذائذ فيها إلا بمقدار، وتدفع فيها الضرائب ليُصرف منها للفقراء وللصالح العام، وتقيّد فيها الحرية بجملة قيود: عبادات في أوقات خاصة، واحترام ملكية، واحترام نفوس، ونقلب فيها قيمة الأخلاق قلباً: فالإنتقام والأخذ بالثأر لم يعد خير الخصال، وهلم جرّا.
وقد عقد الأستاذ "جولد زيهر" فصلاً في نقاط النزاع بين الإسلام والفضائل عند العرب عَنْوَنَه "بالدين والمروءة"، وهو يتلخص في "أن الإسلام رسم للحياة في الجاهلية، وهذان المثلان لا يتشابهان، وكثيراً ما يتناقضان، فالشجاعة الشخصية، والشهامة التي لا حدّ لها، والكرم إلى حدّ الإسراف، والإخلاص التام للقبيلة، والقسوة في الإنتقام، والأخذ بالثأر ممن اعتدى عليه أو على قريب له أو على قبيلته بقول أو فعل، هذه هي أصول الفضائل عند العرب الوثنيين في الجاهلية.
أما في الإسلام فالخضوع لله والإنقياد لأمره والصبر، وإخضاع منافع الشخص ومنافع قبيلته لأوامر الدين، والقناعة وعدم التفاخر والتكاثر، وتجنب الكبر والعظمة هي المثل الأعلى للإنسان في الحياة.
وبعد فإلى أي حدّ تأثر العرب بالإسلام، وهل امّحت تعاليم الجاهلية ونزعات الجاهلية بمجرد دخولهم في الإسلام؟ [...].
الإجابة عن هذه التساؤلات، وغيرها من التساؤلات المطروحة في هذا المجال شكلت مدار البحث في هذه الموسوعة، التي ظهرت طبعتها الأولى نحو سنة 1929 والتي وجدت لها صدىً واسعاً في أوساط الباحثين من أجل العربية والمستشرقين ويقول عميد الأدب الدكتور طه حسين مقرّضاً لهذا العمل في حينه: "أخذ أحمد أمين نفسه بما رأيت من مناهج البحث في دروس الحياة العقلية للأمة العربية إبان القرن الأول للهجرة، فانتهى إلى نتيجتين كلتاهما قيمة حقاً: الأولى أنه أظهر هذه الحياة كما كانت، معقدة ملتوية ولكنها قوية أشدّ قوة ممكنة، خصبة أشدّ خصب ممكن، يعيده كل البعد عما كان يظنّ الناس من هذه السذاجة الغليظة الجافة، الثانية أنه وصل بين الثقافة الأدبية والثقافة الدينية والفلسفية وصلاً متيناً لن يتعرض منذ الآن لضعف أو وهن، فقد كان الناس يعلمون أن للدين والفلسفة أثراً في الشعر والنثر؛ ولكنهم لم يكونوا يزيدون على هذه القضية العامة.
أما الآن فقد استطاع "أحمد أمين" أن يضع أيدينا على هذه الآثار القوية الخالدة التي يتركها الدين والفلسفة والأدب، وأصبح كتابه وسيلة قيّمة إلى أن تتصل الحياة الدينية الإسلامية في وضوح وجلاء وقوة إلى نفوس الشبان الذين يدرسون الأدب العربي في الجامعة أو في غيرها من معاهد العلم العالي ومن ذا الذي كان يقدّر أن سيصل شبابنا إلى تعمق الفقه والتفسير والحديث والتوحيد وأثرها كلها في الأدب العربي؟...
ومهما يكن من شيء، فنحن نقدم إلى القراء "فجر الإسلام" راجين ألا يفرغوا من قراءة أحد أقسامه حتى يظهر لهم قسمه الثاني ثم قسمه الثالث راجين بنوع خاص أن يكون ظهور هذا الكتاب مؤرخاً لعصر جديد يدرس فيه الأدب العربي هذا الدرس المفصل الدقيق الحرّ [...].
وأخيراً، استطاع "أحمد أمين" في موسوعته هذه الإستقلال بدرس الحياة العقلية العربية دراسة موضوعية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الموسوعة اشتملت على أجزاء ثلاث جاءت عناوينها على التوالي: "فجر الإسلام"، "ضحى الإسلام"، "ظهر الإسلام".... إقرأ المزيد