مشكلة الجوهر عند ابن رشد بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة
(0)    
المرتبة: 121,059
تاريخ النشر: 13/01/2016
الناشر: مكتبة حسن العصرية للطباعة والنشر والتوزيع
نبذة نيل وفرات:تندرج العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة ضمن تصور ابن رشد للعالم.. ففي سعيه وراء تملّك رؤية متكاملة ومنسجمة عن الكون بدأ من أبسط أشكال الطبيعة (الفيزيقا)، وانتهى بأرقى درجات ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا)، لذا نجده تارة عالماً وفلكياً وطبيباً، وتارة فيلسفوفاً وسياسياً.. ولا يمكن استبعاد هذا ...التأثير المباشر لأرسطو الذي وقف ضد فلسفة استاذه أفلاطون (428-347 ق.م)، مما قاده إلى الاهتمام بالمسائل الفيزيقية لبيان دور المحسوسات في وجود الكليّات. وهنا يمكن فهم الهجوم الذي شنّه ابن رشد على الأثر الأفلاطوني في الفلسفة العربية الإسلاميّة، وضد بقايا تاسوعات أفلوطين في الفلسفة الشرقية. فإذا نظر أفلاطون إلى عالم المثل بما هو الحقيقة العقلية الوحيدة التي يمكن إقرارها، فإن العالم الحسّي (عالم الطبيعة) لا يُمثّل إلّا نسخة عن عالم المثل وما يعنيه ذلك من استبعاد لدور الجزء في وجود الكل. فالوجود هو وجود كلّي ولا دور للحسّي فيه. وإلى هذا يقرّ مؤرخو الفلسفة ويعترفون صراحة بلاهتمام الذي يوليه أرسطو للطبيعة إيماناً فيه بدور الحواس في عملية المعرفة، وهو الأمر الذي تأثر به ابن رشد أيّما تأثير، وهو الذي يدرك حجم الزيف الذي طال فلسفة الحكيم جرّاء دخول الفلسفة الأفلوطينيّة على التقليد المشائي، لذا ليس من المبالغة القول إنّ الصراع الذي خاضه الحكيم ضد أفلاطون، أعاد ابن رشد صياغته وفق شروط العصر ومتطلباته ضد الفارابي وابن سينا والغزالي ومن خلالهم ضد علماء الكلام.
هذا ويتميز المتن الرشدي في نظر الباحث صاحب هذه الدراسة بامتداده الى مجال هذين العلمين. فعلى خلاف القراءات الاختزالية التي ترى أنّ كلّ مافي فلسفة ابن رشد هو توفيقية بين الشريعة والحكمة، ونظرته الحداثية للمجالين الديني والفلسفي، وقدرته على بلورة موقف عقلاني من إحدى إعضالات الفكر الوسطوي، يذهب الباحث مع الرشديين إلى القول إنّ النص الرشدي وقف على النظر الأرسطي في الطبيعة لتأسيس منطلق جديد شكّل ركيزة وعماد رؤيته للعالم. فأقواله في العلم الطبيعي، وبراهينه تضع حدّاً فاصلاً بين تصوره للعالم وتصوّر الفلاسفة المسلمين السابقين عليه، وبخاصّة ابن سينا الذي لا يفصل بين العلم الطبيعي والعلم الإلهي اعتقاداً منه أن الفيزيائي لا يضع مبادئ العلم الطبيعي ولا يبرهن عليها، وليس من اختصاصه ذلك؛ بل الفلسفة الأولى هي التي تضع مبادئ الفيزياء، وتتم هذه النظرة عن تصور اختزالي للعلاقة بين العلمين، تكون فيه الأولوية للاهوت (الثيولوجيا) على الوجود (الأنطولوجيا)، في حين أن القول الرشدي يذهب الى تقويم هذه النظرة الاختزالية التي لم تنصف الفيلسوف الحكيم، مما يعبّر عن سوء فهم للنص الأرسطي.
فالعلاقة (في نظر ابن رشد) تتأسس على أولوية الأنطولوجيا على الثيولوجيا؛ أي أولوية الوجود الطبيعي، كمعطى أولي ثابت بأسبابه الأربعة التي تشكّل لبنة وقوام العالم، على الميتافيزيقا، التي تقوم على ماتم في العالم الطبيعي، دعم يوجد من تداخل بين مبادئ الجوهر المتحرك الفاسد (موضوع العلم الطبيعي)، ومبادئ الجوهر الأزلي (موضوع ما بعد الطبيعة)، ذلك أنّ البرهان على وجود مبادئ الجوهر الطبيعي ليس للفلسفة الأولى؛ بل إنّ صاحب العلم الطبيعي هو الذي يعطي أسباب الجوهر المتحرك المادّي والمحرّك. يميل ابن رشد على بعض العلاقات التي تدل على تميز النظر الطبيعي عن النظر الميتافيزيقي، وهناك مستويات متعددة في الفصل بين الطبيعيات والإلهيات، فقارئ نصوص ابن رشد يقف أول الأمر على تباين النظر الابستمولوجي والأنطولوجي؛ ذلك أن أولى علاقات الفصل والتمايز والأكثر وضوحاً تتمثل في الاختلاف الظاهر بين مستويين في النظر إلى الوجود متباينين في الطبيعة لا في الدرجة فحسب: نظر في المتحرك أو في الموجود بما هو متحرك ومتغير، ونظر في الموجود بما هو موجود، أي بعبارة أخرى الجوهر كجوهر متحرك، والجوهر كجوهر غير متحرك.
وهنا يطرح الباحث التساؤلات الآتية: هل هناك علم واحد لكل الجواهر، أم أنّ هناك عدّة علوم؟ هل نقرّ بوجود جواهر محسوسة فقط، أم نقرّ أيضاً بوجود جواهر غير محسوسة؟ هل يمكن أن يكون الجوهر جسراً بين العلم الطبيعي، ما بعد الطبيعة؟ كيف استطاع ابن رشد تجاوز الفلاسفة السابقين عليه كابن سينا مثلاً؟ هل قدّم ابن رشد تصوراً جديداً بصدد العلاقة بين العلوم الجزئية والفلسفة الأولى؟ فيما يكمن هذا التصور؟ مادور المنطق في بيان طبيعة العلاقة بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة؟ كيف استثمر ابن رشد رؤيته الجديدة للعلاقة بين الفلسفة الأولى والعلوم الجزئية للردّ على علماء الكلام. شكّلت هذه التساؤلات منطلق البحث لدى الباحث في مشكلة الجوهر عند ابن رشد، ذاكراً بأنه استوحى العنوان من كتاب بيير أوبانك (Pierre Aubenque) العنوان: (Le problém de l’etter chez Aristote)، وليذهب الباحث إلى أنّ مشكلة الجوهر تستحق أن تكون موضوعه لهذه الدراسة بغاية مقاربة العلاقة بين العلمين.
وعلى هذا الأساس جاء العنوان: "كشطلة الجوهر عند ابن رشد بين العلم الطبيعي وعلم ما بعد الطبيعة"، جامعاً بين المستويين من البحث دون أن يفصل بينهما، وإن كانت مشكلة الجوهر تندرج ضمن بحث إشكالية العلاقة بين العلمين، إلّا أنّ بحثها في كلا المجالين يرفع اللبس والغموض، ويجعل البحث في العلمين هو بحث مشكلة الجوهر. إقرأ المزيد