تاريخ النشر: 01/01/2004
الناشر: دار طلاس للدراسات والنشر
مدة التأمين: يتوفر عادة في غضون أسبوعين
نبذة نيل وفرات:" هديته إلى الثوار " .
" كانت ميتة خرقاء تلك التي كتبت على الحداد الشاب ، عبد الستار الشاغوري .. ! ... ميتة قيل أنها جاءت مصادفة ، حملتها إليه رصاصة طائشة لم تجد هدفاً لها خيراً من صدره العريض فاستقرت فيه ، وفي لحظة خاطفة ، ...غدا الحدّاد العتليت الذي لم يتجاوز الثلاثين من عمره جثة هامدة ، مطروحة على الأرض يصبغ نجيعها تراب الدرب ! ... كان هذا المنظر على الرغم من بشاعته قد أصبح مالوفاً لدى سكان دمشق إبان الثورة السورية . يوم صار الموت بالرصاصات الطائشة أمراً شائعاً ، لا يثير الإستغراب أو الدهشة . فكثيراً ما كانت المعارك تنشب بين الفرنسيين والثوار في شوارع المدينة ، وأحياناً بين حواريها الضيقة فيطيش الرصاص كيفما اتفق ويردي المارة قتلى . وكان واضحاً لدى جميع الناس أن هذه الرصاصات المواقف الحاسمة ، أي حين يواجهون الأعداء . بينما كان الفرنسيون يطلقون الرصاص أحياناً على سبيل المزاح ، أو للترفيه عن النفس ، وليتسلوا بمرأى الذعر على وجوه المارين في الشوارع . عندما أصابت الطائشة عبد الستار الشاغوري ، كان على بعد خطوتين من بيته . وكان ذلك في شهر رمضان ، وقُبيل مدفع الإفطار . وكان الرجل صائماً يوسع الخطى ليصل إلى بيته قبل أن يدركه الوقت . وكان يحمل كيساً كبيراً فيه عشاء زوجه وولديه التوأمين الصغيرين ! .. كان عبد الستار يقول لزوجه : إن أحلى لحظات حياته هي حين يضع المفتاح في باب بيته . كان يتئد قليلاً قبل أن يدخل ، ثم يرهف سمعه كي يتلذذ بسماع صوت الصغيرين وهما يصرخان وكأنهما يزقزقان : بابا ... بابا .. ثم يصغي إلى فقرات خطواتهما الصغيرة وهما يتسابقان نحو الباب . وعندما يبصرانه كانا يقفان أمامه ساكنين ، ثم يفتحان فميهما ويلبثان لحظة ينتظران ، كما تفعل أفراخ الطير تماماً . ثم يضع في فم كل منهما قطعة من الحلوى فيطبقان فمهما عليها ، ويتواثبان حوله ، ويتثبتان به حتى يحملهما ويدور بهما في صحن الدار ، هكذا عددها ، وكانت هذه اللعبة تتكرر كل يوم . وفي كل مرة كان الأب يشعر أن السعادة تغمره من فرقه حتى قدميه . كان يسمي توأميه بالفرخين . وكان الرجل متفائلاً إلى حدٍّ بعيد ، يعتقد أن في قدرته – هو الحداد الفقير – أن يجعل من فرخيه الصغيرين نسرين قويين يحلقان عالياً . ولكن الرصاصة الطائشة عاجلته ! ... هدمت ذلك كله في طرفة عين . أقيم لعبد الستار الشاغوري مأتم حافل في دار جاره أبي سعيد الخباز ، لأن دار الشهيد كانت صغيرة لا تتسع لأفواج المعزين ، فالرجل كان معروفاً في أكثر أحياء دمشق بنخوته ومروءته وتفانيه في سبيل وطنه وأمته . بعد أن انصرف الناس من المأتم ، وبقي أهل الحارة وحدهم قال أبو سعيد الخباز صاحب البيت : يا أسفي عليك يا جار الرضا ! .. من قال إن رصاصة صغيرة تقتل ذاك العملاق ؟ يا حسرة لقد انقصف عمره وهو في عز الشباب فكان والله رجلاً حقاً ! .. قال الشيخ مسعود إمام الجامع : .. هذا يا ابني يومه الموعود .. أول البارحة كنت ماراً بسوق الحميدية ، وكانت السوق مكتظة بالناس أكثر منها في أي وقت آخر . وفجأة راح الرصاص يتساقط علينا من كل صوب دون أن نعرف مصدره ، أصيبت امرأة وقتل طفل صغير ، وبعد لحظة سكن كل شيء ، وعادت الأمور إلى ما كانت عليه كأن لم يحدث ذلك الأمر الفظيع . وكان ذلك قبيل مدفع الإفطار أيضاً ، أي في نفس الوقت الذي قُتل فيه عبد الستار ، كأنهم يختارون ذلك الوقت عن عمد ليشيعوا البلبلة بين الناس . انبرى أحمد الحلاق قائلاً : " أتصدقون يا ناس مهزلة الرصاص الطائشة هذه ؟؟ إنها والله مؤامرات مدبرة يريد الفرنسيون أن يبثوا فينا الذعر ، أن يجعلونا نكفر بالثورة ، وكلما أرادوا أن يتخلصوا من واحد منا أرسلوا إليه من يصطاده ، ثم يقولون بكل بساطة : مات برصاصة طائشة .. يا لها من طريقة سهلة للتخلص ممن يخافونه . لماذا لم تصب الرصاصة الطائشة إلا عبد الستار ؟ لماذا لم تصبني أنا أو أنت ؟ أو ... لم يعد خافياً على أحد أن عبد الستار أصبح من زعماء الثورة المرموقين ؟ " مجموعة قصصية تأخذ القارىء إلى عوالم نسجتها الكاتبة لتحكي واقعاً معاشاً .. في زمان .. وعصر ما يتفاوت في امتداداته القريبة والبعيدة .. وفي أمكنة ما ... ما بين حواري دمشق وأزقة فلسطين ... تبرز الشخصيات حيّة .. ليحكي بعضها عنفوان الثورة وروح الإباء والتضحية ... وليعيد بعضها الآخر إلى الأذهان حكايا بيوت شامية عنيقة ضنّت جدرانها على البوح بها .. سوى لكاتبة همست بها لقلمها فأبدع .. ووشت بها لخيالها فنسج منها أحلى الحكايات . إقرأ المزيد