تاريخ النشر: 02/06/2008
الناشر: رياض الريس للكتب والنشر
نبذة نيل وفرات:يتسم تاريخ الغرب بمراكز متنافسة للسلطة. قد نرى ذلك ممفروغاً منه، لكنه لم يكن صحيحاً في كل مكان. في معظم أنحاء العالم كانت الكنيسة متحدة مع الدولة دون إبقاء مجال يذكر لتطوير مراكز سلطة مستقلة. ويمكن تقصي بدايات تقسيم السلطات في الغرب إلى رد المسيح عليه السلام على الفريسين: ..."أعط ما لقيصر وما لله لله". وقد أوضح بذلك أن شؤون الحياة جميعاً ليست تحت سيطرة الدولة. هذه الفكرة الراديكالية ترسخت في المسيحية الغربية.
ويقول المؤرخ رالف رايكو بأن "جوهر التجربة الأوروبية الفردية هو أن حضارة قد تطورت شعرت بذاتها بأنها تامة -المسيحية- ومع ذلك فقد تم تفكيك مركزيتها بطريقة راديكالية. بسقوط روما، تحولت القارة إلى خريطة فسيفسائية من المقاطعات والكيانات السياسية المنفصلة والتنافسة التي استبعدت الانقسامات الداخلية فيها هي نفسها قيام سلطات مركزية". الكنيسة المستقلة كبحت سلطة الدول، تماماً كما منع الملوك تركز السلطة في يد الكنيسة. وفي المدن الحرة الدستورية في القرون الوسطى طور الناس مؤسسات للحكم الذاتي ووفرت المدن مجالاً لازدهار التجارة.
حتى القانون، الذي ينظر إليه اليوم باعتباره منتجاً موحداً للحكومة، له تاريخ تعددي. فكما كتب هارولد بيرمان في (القانون والثورة): ربما كان أهم الملامح المميزة للتقاليد القانونية الغربية هو التعايش والتنافس ضمن المنطقة المجتمعية في سلطات قضائية متعددة وأنظمة قانونية متعددة، التعددية القانونية الناشئة عن التفريق بين السياسة الكنسية السياسة العلمانية. القانون العلماني نفسه كان منقسماً إلى أنواع متنافسة عديدة، بما في ذلك القانون الملكي، والقانون الإقطاعي، والقانون الريفي، والقانون الحضري، والقانون التجاري. قد يخضع الشخص ذاته لمحكمة كنسية في نوع معين من القضايا، والمحكمة الملك في نوع آخر، ولمحكمة الإقطاعي في نوع ثالث، وللمحكمة الريفية في نوع رابع، ومحكمة مدنية في نوع خامس، ومحكمة تجارية في نوع سادس". بل الأهم من ذلك أنه كان لدى الأفراد على ألأقل درجة من حرية الاختيار بين المحاكم مما شجع جميع الأنظمة القانونية على تطبيق قوانين جيدة.
طور الغرب من خلال كل هذه الطرق شكوكاً عميقة في تركيز السلطة، وعندما بدأ الملوك، خصوصاً لويس الرابع عشر في فرنسا وملوك آل ستيوارت في بريطانيا، بالمطالبة بمزيد من السلطة أكثر مما كان لديهم تقليدياً قاوم الأوروبيون ذلك. وأثبتت مؤسسات المجتمع المدني والحكومات الذاتية في إنكلترا أنها أقوى من مثيلاتها في القارة الأوروبية، وآلت محاولة الستيوارتيين لفرض ملكية مطلقة إلى نتائج مخزية وقطع رأس تشارلز الأول عام 1649.
برزت الأفكار الليبرالية الحديثة رداً على الحكم المطلق في محاولة لحماية الحرية من دولة متغطرسة. وفي إنكلترا خاصة طور المساواتيون، وجون لوك وكتاب المعارضة في القرن الثانت عشر، دفاعاً عن التسامح الديني والملكية الخاصة وحرية الصحافة والأسواق الحرة في العمالة والتجارة.
في المختارات التي يحويها هذا الكتاب يتخذ توماس باين خطوة أخرى في هذه الأفكار المعارضة: الحكومة نفسها في أحسن الأحوال "شر لا بد منه". الملك الأول كان دون شك مجرد "زعيم عصابة مهتاجة"، والملكية الإنكليزية نفسها "بدأت بابن زانية فرنسي جاء على رأس عصابات مسلحة". لم تكن هناك قدسية للسلطة الحاكمة، وبالتالي كان للناس الحق في التمرد على حكومة تجاوزت سلطاتها المشروعة.
وما إن نجحت الثورة الأميركية، حتى شرع جيمس ماديسون وأميركيون آخرون في القيام بواجب آخر: إقامة حكومة استناداً إلى مبادئ ليبرالية، حكومة تحفظ مصالح المجتمع المدني ولا تتعدى حدودها خارج تلك المهمة الحيوية والبسيطة في نفس الوقت. الحل الذي اقترحه ماديسون هو دستور الولايات المتحدة الذي دافع عنه هو وألكساندر هاميلتون وجون غاي في سلسلة من المقالات في الصحف التي أصبح يطلق عليها (الأوراق الفيدرالية)، وهي أهم إسهام أميركي في الفلسفة السياسية. وقد أوضح في (أوراق فيدرالية، العدد 10) كيف يمكن لحكومة محدودة على منطقة جغرافية كبيرة أن تتجنب الوقوع فريسة لتأثيرات الأحزاب وتجاوزات الأغلبيات. إذا كان بالإمكان اعتبار ماديسون ورفاقه ليبرتاريين، فإن كثيراً من المعارضين للفيدرالية كانوا ليبرتاريين أكثر تطرفاً إذ كانوا يخشون من الدستور لن يحدد بصورة كافية سلطات الحكومة الفيدارلية، وقد أدت جهودهم إلى إضافة وثيقة الحقوق.
بعد أربعين عاماً من المصادقة على الدستور وصل إلى أميركا شاب فرنسي يدعى أليكس دو توكوفيل ليرى على الطبيعة أول بلد ليبرالي في العالم. وأصبحت ملاحظاته التي جمعها تحت عنوان (الديموقراطية في أميركا) أحد أهم الأعمال في شرح النظرية السياسية الليبرالية. وقد حذر من أن بلداً يقوم على المساواة السياسية قد يتحول إلى نوع جديد من الإستبدادية، إلى بلد "يغطي سطح المجتمع بشبكة من القوانين الصغيرة المعقدة، والدقيقة والمتسقة" مثل أم ترعى أطفالها. سيتعين على الأميركيين أن يقوا يقظين إلى الأبد لحماية حريتهم التي حققوها بشق الأنفس.
وقد شرح جون ستيوارت ميل في أحد أكثر الأعمال أهمية بعنوان (حول الحرية) مبدأ الذي ينص على أن "الغرض الوحيد الذي يمكن فيه ممارسة سلطة حقه على أي فرد في مجتمع متحضر هو حماية الآخرين من الأذى". (هناك مفكرون ليبرتاريون آخرون يؤكدون أن كلمة "أذى" مقياس غامض جداً وأن الصيغة الأفضل قد تكون "حماية الحقوق المحددة بوضوح في الحياة والحرية والملكية"). كذلك أكد ميل أن واجب الحكومة ينبغي أن يكون محدوداً -حتى لو كانت تؤدي بعض الواجبات بصورة أفضل من المجتمع المدني- وذلك لتجنب "الشرور الكبيرة الناجمة عن زيادة سلطتها".
في القرن العشرين واصل الليبرتاريون فحص طبيعة السلطة والبحث عن طرق لتحديدها. وقد شجب إنش إل مينكين الحكومة بشدة باعتبارها "سلطة معادية" لكن لم يكن لديه أمل كبير في تغيير ذلك. أما إيزابيل باترسون فقد خشيت من أن تؤدي الدوافع الإنسانية التي تمارس من خلال وسائل غير صحيحة حتى ببعض الناس الطيبين إلى ممارسة السلطة بطرق خطيرة. ومن بين المفكرين الليبرتاريين كان لموراي روثبارد راي متطرف: وهو أن كل حكومة تمارس الإكراه هي انتهاك غير مشروع للحرية الطبيعية وأن بالإمكان توفير كل السلع والخدمات من خلال عمليات اختيارية حرة بصورة أفضل مما يمكن للحكومة أن تفعله. أما ريتشارد إيبستين، فقد تناول قضية السلطة بصورة مختلفة: في ضوء حاجتنا لحكومة تمارس شيئاً من الإكراه لحمايتنا بعضنا من بعض وإتاحة المجال للمجتمع المدني لكي يزدهر، كيف نستطيع تحديد سلطة الحكومة؟ وهو يعرض في المقال المختار له إجابة ذات ثلاث شعب: الفيدرالية، فصل السلطات، وضمانات صارمة لحقوق الفرد. إقرأ المزيد