تاريخ النشر: 01/01/2000
الناشر: دار بيروت المحروسة
نبذة نيل وفرات:يعد البيهقي من أئمة الحديث في عصره، و ذلك لاعتنائه بالحديث اعتناءً خاصاً، وتأليفه في هذا المجال موسوعات جليلة كالسنن الكبرى ومعرفة السنن والآثار وغيرهما من المؤلفات الحديثية الهامة.
إلا أن هذا الاهتمام الخاص من البيهقي بالحديث وعلومه، لم يشغله عن البحث والتأليف في موضوعات الفكر الإسلامي الأخرى كالفقه والتفسير ...والعقائد والأخلاق، بل على العكس تماماً فقد استفاد من خبرته الغنية في الحديث ووظفها في تآليفه بالموضوعات الأخرى، لكنه التزم في ذلك طريقة المحدثين، وسار على منهجهم في التأليف.
وفي كتاب إثبات القدر وهو كتاب في العقيدة سلك البيهقي في تأليفه مسلك المحدثين، مقتدياً في ذلك بمن سبقه من علماء الحديث الذين ألفوا في هذا الميدان، ويتلخص هذا المنهج بما يلي:
أ-تحديد القضية المراد إثباتها أو نفي شبه المخالفين فيها، بعنوان رئيس يختصر مضمون الباب أو الفصل المخصص لذلك.
ب-إيراد الآيات القرآنية الدالة على صحة القضية المراد إثباتها، أو ذكر الآيات التي تخالف ما ذهب إليه الخصم وتبين سقط دعواه.
ج-رواية الأحاديث النبوية الدالة على صحة ما يريد المؤلف إثباته، والحرص على ذكر الحديث الواحد من طرقه المختلفة، للتأكيد على سلامة ما يروونه من القدح أو العلة.
د-ذكر أقوال الصحابة والتابعين والعلماء التي تؤيد ما ذهب إليه المؤلف، وهم هنا يهتمون برواية هذه الأقوال بقدر اهتمامهم بذكر أسانيدها وطرقها المختلفة.
هـ-الابتعاد بقدر الإمكان عن الحجاج العقلي كما ورد في منهج المتكلمين، فلا افتراضات ذهنية، ولا إلزامات عقلية للخصم كما هو السائد في كتب المتكلمة.
و-الاقتصاد في تأويل الآيات عن ظاهرها، وعدن صرف هذه الآيات عن دلالتها الظاهرة إلا بحجة نقلية سواء من القرآن أو السنة.
ويمكن القول إن البيهقي قد اتبع هذا المنهج كاملاً في تأليفه لكتاب إثبات القدر، فظهر هذا الكتاب في إطاره الفني نموذجاً صادقاً له.
قسم البيهقي كتابه هذا إلى "30" باباً، وبدأ كل باب بوضع عنوان رئيس له، وأحياناً يكون هذا العنوان مطولاً يصعب فضله عن سياق ما يريد إثباته، إلا أن أبواباً عدة قد شذت عن هذه القاعدة، فلم يضع البيهقي لها عنواناً يختصر مضمونها، لذا اجتهدت فوضعت لها عناوين أتوخى أن تكون مناسبة.
وبعد العنوان مباشرة، يورد البيهقي الأدلة النقلية من القرآن الكريم، التي يرى فيها براهين قوية على ما يريد إثباته، وهو هنا يكتفي بذكر الآيات القرآنية دون تعليق عليها كما هو عادة المحدثين. إلا أن بعض الأبواب لم يسلك فيها هذا المسلك، إذ نجده قد بدأ بذكر الأحاديث النبوية من بعد ذكر عنوان الباب مباشرة.
ثم ينتقل البيهقي إلى رواية الأحاديث النبوية التي تدل في نظره على صواب المسألة التي هو بصددها، وهنا تظهر براعته، فهو يبدأ برواية الأحاديث التي ثبتت صحتها عند الإمامين البخاري ومسلم، فهو يشير دائماً بعد رواية هذه الأحاديث الصحيحة إلى رواية البخاري لها في الجامع الصحيح، ورواية مسلم لها في جامعه الصحيح أيضاً، ثم يعزز ذلك برواية هذه الأحاديث التي تثبت عند البخاري ومسلم، من طرق أخرى عديدة قل أن نجدها عند محدث آخر، ومثال ذلك حديث المحاججة بين آدام وموسى، وحديث القدرية مجوس الأمة.
ولا يشير البيهقي في هذه الطرق إلى ورودها في كتب السنة الأخرى حتى وإن التقى سنده مع سند مؤلفيها، ولعل مرد ذلك إلى أن البيهقي قد أحس بعلو مكانته في جمع الحديث، وأن هذه المكانة تجعله صنواً لأصحاب السنن كابن ماجة والترمذي وابن حنبل وغيرهم.
وتظهر براعة البيهقي أيضاً باهتمامه بالإسناد في روايته لهذه الأحاديث، وهذا الإسناد طالما حرص عليه المحدثون إن كان رجاله ثقات، لذا نجد البيهقي في كتابه هذا لم يعدل عنه إلا إذا رأى أن رجالات السند النازل هم أوثق من رجالات السند العالي.
ولا يجد البيهقي حرجاً في ذكر الأحاديث الضعيفة لإثبات المسألة التي هو بصددها، وقصده في ذلك أن تكون هذه الأحاديث شواهد يقوي بعضها بعضاً، لذا فقد تناول البيهقي نفسه هذه الأحاديث بالنقد وبيان عللها في مواضع كثيرة.
وقد كان البيهقي في هذا الكتاب جامعاً جيداً للأحاديث والآثار التي تتعلق بمسألة القدر، لكن هذا الجمع جاء دون تمحيص أو تصنيف لها من جها الصحة أو الضعف في كثير من الأحيان، وهذا الأمر بالغ الأهمية، لأن هذه الأحاديث إنما جمعت لإثبات مسائل اعتقادية كثر الجدل والنقاش فيها، فكان حري بالبيهقي وهو المحدث الكبير أن يتناول متون هذه الأحاديث وأسانيدها بالنقد لبيان مدى صحتها أو ضعفها.
كذلك غلب على عرض البيهقي لمسألة القدر بجزئياتها المختلفة الطابع التلفيقي، من غير شرح أو تعليق إلا ما ندر، كما تحاشى أيضاً ذكر أقوال الفرق الأخرى في هذه المسألة، ولم يناقش ما اعتمدت عليه من أدلة سواء من القرآن أو السنة، ولعل ذلك يرجع إلى المنهج الحديثي الذي التزمه في عرض المسائل الاعتقادية.
وقد وفق البيهقي في هذا الكتاب بحشد الأدلة الكثيرة جداً على ما أراد أن ينتصر له، حتى إنه يمكن القول: إن كتاب البيهقي إثبات القدر هو من المؤلفات النفيسة في هذه المسألةـ إذ إ، هذا الكم الهائل من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة والتابعين والعلماء التي تضمنها لا يوجد نظيره في مؤلف آخر. إقرأ المزيد