تاريخ النشر: 01/01/1998
الناشر: دار الكتاب العربي
نبذة نيل وفرات:قال عبد الرحمن بن عيسى بن حمّاد الهمذاني الكاتب: الصناعات مختلفات، ولها درجات متفاوتات، فمنها ما يرفعُ أهلهُ ويشرفهم، ويغنيهم، عند المساجلة والمكاثرة عن كرمِ المناسب، وشرف المناصب، ومنها ما يصنع المحترفين له أشدّ الصنعة، ويخملهم أقبح الخمول، حتى لا يكونوا لأحدٍ ممن سواهم نظراء في منزلةٍ، ولا أكفاء ...في معاشرةٍ، وإن كان بعضهم لبعضهم قديمٌ يذكره أو أبٌ معروفٌ يعتزي إليه.
وقد قال إمام المتقين، أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: "قيمةَ كل امريءٍ ما يحسنه"، وقال: "الناس أبناء ما يحسنون"، وهذه الكتابة من أعلى الصناعات وأكرمها وأسَمَعِها بأصحابها إلى معالي الأمور، وشرائف الرتب: مَنهُمْ بين سيّد ومدبّرٍ سيادة، وملكٍ وسانسِ دولة ومملكة، وبلغت بقومٍ منهم منزلة الخلافة، وأعطتهم أزمّة الملك، والمتصرفون فيها في الحظِّ منها بين متعلق بالسِّماك مضاءً ونفاذاً، وبين متنكس في الحضيض نقصاً وتخلُّفاً ومن آفاقها على ذوي الفضل منهم أن المتأخر فيها لا يمتنع من إدّعاء منزلة المتقدم فيها، بل لا يعفيه من إدّعاء الفضل عليه، والمتقدم لا يقدر على تثبيت نقص المتخلف، في كلّ حال من الأحوال، أو مشهدٍ من المشاهد، لدروس أعلام هذه الصناعة، وقلّة من يرجع إليه فيها، إلا إذا اتفق حُضُورُ مُميّز، وأمكن قرب محصِّل، وهيهات أن يكون ذلك في كل وقت وآن.
ووجدت من المتأخرين في الآلة قوماً ما أخطاهم الإتّساع في الكلام، فهم متعلقون في مخاطباتهم وكتبهم باللفظة الغريبة، والحرف الشاذّ، ليتميّزوا بذلك من العامة، ويرتفعوا عند الأغبياء عن طبقة الحشو، والخَرَسُ والبكَمُ أحسن من النطق في هذا المذهب الذي تذهب إليه هذه الطائفة في الخطاب، وألغيت آخرين قد توجهوا بعض التوجه، وعَلوْا هذه الطبقة، غير أنهم يمزجون ألفاظاً بسيرة - قد حفظوها من ألفاظ كتاب الرسائل - بألفاظ كثيرة سخيفة من ألفاظ العامة، إستعانة بها، وضرورة إليها، لخفة بضاعتهم، ولا يستطيعون تغيير معنى بغير لفظه لضيق وسعهم، فالتكلف والإختلال ظاهران في كتبهم ومحاوراتهم...
فجمعت في كتابي هذا لجميع الطبات أجناساً من ألفاظ كُتّابِ الرسائل والدواوين، البعيدة عن الأشيباه والإلتباس، السليمة من التعمير، المحمولة على الإستعارة والتلويح، على مذاهب الكُتّاب وأهل الخطابة، دون مذاهب المتشدقين والمتفاصحين... إلى أن يقول: واللفظ زينة المعنى، والمعنى عماد اللفظ، ولكن مما يُحور من التأليف والنظم أن يكون كما قلت: "تزيّن معانيه ألفاظه / وألفاظه زائنات المعاني"، فإذا كانت الألفاظ مشاكلةً للمعاني في حسنها، والمعاني موافقة للألفاظ في جمالها، وإنصاف إلى ذلك قوّةٌ من الصواب، وصفاء من الطبع، ومادة من الأدب، وعلم بطرق البلاغات، ومعرفة برسوم الرسائل والمكاتبات، كان الكمال...
هذا ويعدّ هذا الكتاب "الألفاظ الكتابية" للهمذاني، من نفائس والكنوز والدرر الغالية مما ألف في موضوعه، وذلك على الرغم من صغر حجمه، إذ جمع شذرات من العلم والفضل فجاء الكتاب ممتعاً جامعاً على صغره، شاملاً على بساطته (الألفاظ الكتابية).
وقد ورد عن هذا الكتاب - كما يذكر المحقق ثلاث نسخ، وأقدمهن رسماً وأوثق نصاً وأوسع أبواباً وأكثر مادة، مكتوبة سنة 522هـ، تحرى ناسخها تطبيقها على الأصل، وقد صدر بلمعة من ترجمة المؤلف مشيراً إلى فضل الرجل وطول باعه، وسعه علمه، وكانت هذه النسخة هي التي اختارها المحقق لتكون الأصل الذي جرت عليه عملية الإعتناء والتحقيق، وذلك نظراً لقدمها، وعظم مادتها.
وقال مصطفى صادق الرافعي في رسالة بعث بها إلى صديقه محمود أبوريه سنة 1912م، لما سأله صاحبه عن رأيه في دراسة الأدب العربي، فكتب إليه: "تم عليك بحفظ الكثير من ألفاظ نجعة الرائد لليازجي، والألفاظ الكتابية للهمذاني، وبالمطالعة في يتيمة الدهر للثعالبي، والعقد الفريد لإبن عبد ربه، وكتاب زهر الآداب الذي بهامشه".
وهذه لمحة بسيطة عن الهمذاني مؤلف هذا الكتاب: هو عبد الرحمن بن عيسى الهمذاني، كاتب بكر بن عبد العزيز أبي دلف العجلي، كان شيخاً صالحاً متعبداً من أهل البيوتات القديمة، قال عنه ياقوت الحموي في معجم الأدباء: "كان الشيخ صالحاً وإماماً في اللغة والنمو ذا مذهب حسن، وكان كاتباً شديداً شاعراً فاضلاً، كتب ابن أبي دلف العجلي له مصنفات قليلة كلها كثيرة الفائدة، منها كتاب الألفاظ الكتابية، وهو صغير الحجم لا يستغني عنه طالب الكتابة، ولا محبّ العربية وآدابها. إقرأ المزيد