حديقة الزوراء في سيرة الوزراء
(5)    
المرتبة: 15,716
تاريخ النشر: 01/12/2003
الناشر: المجمع العلمي
نبذة نيل وفرات:في يوم من أيام سنة 1611هـ/1748م، استقبل رجل في أواسط العقد الرابع من عمره، من أسرة علمية نبيلة، في بيته الواقع قرب رباط قديم في كرخ بغداد، عند شاطئ دجلة، مبعوثاً خاصاً أوفدته إليه سيدة مثقفة من سيدات مدينته، ينقل إليه رغبتها في أن يؤلف كتاباً مستقلاً في سيرة ...واليي بغداد، جدها الوزير حسن باشا وخالها الوزير أحمد باشا، وكانت هذه السيرة قد شغلت نحو نصف قرن كامل من تاريخ العراق. فما كان إلا أن وجدت هذه الرغبة ميلاً في نفسه، وتحقيقاً لذاته في أن يكتب تاريخ مدينته التي أحبها، وعاش مختلف ظروفها، حلوها ومرها. فأما الرجل، فهو الشيخ الأديب عبد الرحمن السويدي، النجل الأكبر للعلامة الشيخ عبد الله السويدي، ذائع الصيت، وأما السيدة فهي خديجة خانم بنت قرة مصطفى باشا، العربي أرومة، وابنة أخت والي بغداد الوزير أحمد باشا، وأنها هي صفية خانم بنت حسن باشا، والي بغداد السابق، وأما من كتب من أجلهما هذا الكتاب، فهما الواليان المذكوران.
وفي الواقع فإن اختيار خديجة خانم للشيخ عبد الرحمن السويدي، لم يكن اختياراً سريعاً يفتقر إلى مرراته، فهذا الرجل كان سليل أسرة عباسية النسب، تشعر بانتماء خاص لمدينة بغداد التي بناها أسلافه منذ قرون عديدة، وهي وإن نزحت من بلدة الدور إليها، إلا أن هذا النزوح جرى منذ قرنين قبل ولادة عبد الرحمن في سنة 1134هـ/1721م، وهي مدة كافية لتغدو أسرته إحدى الأسر العريقة في بغداد، أو في الأقل في الكرخ منها، حيث أقامت الأسرة في محلة خضر إلياس، من محلاتها القديمة، ونشأت بينها وبين الأسر الأخرى، ممن تشترك معها في عنايتها بعلوم العصر وآدابه، مثل الآلوسيين والشاويين والعشاريين، صلات واسعة، وصداقات حميمة.
ولا شك في أن الشيخ عبد الرحمن طفق، بعد أن فوجئ بطلب السيدة خديجة خانم، يستعيد ذكرياته، ويرتب أفكاره، فلاحظ أن معلوماته عن السنين التي سبقت ولادته، أو التي لم يكن فيها يعي الأحداث لصغر سنه، مستمدة في أغلبها مما رواه له أبوه الشيخ عبد الله، ذلك أن هذا الشيخ كان قريباً من الأحداث، يرقبها بكل عناية، بحكم ثقافته الواسعة، ومشاركته بما عاصره من افراح مدينته وأتراحها معاً. بل شرع عبد الرحمن يستذكر روايات كان قد سمعها من آخرين ممن قيض لهم أن يكونوا شهود عيان على ذلك العصر، من علماء وموظفين وقادة عسكريين.
وتضم تلك الذكريات أحاديث مهمة عن حركات عسكرية عديدة كانت تقوم بها عشائر عراقية بعضها كان حديث القدوم إلى العراق، ويهدد وضعها القلق استقرار الحياة الاجتماعية في ريف العراق عهد ذاك. كما تذم أيضاً أحاديث أخرى، مفعمة بصور البسالة، عن الحملة العسكرية التي قادها حسن باشا، وشارك بها عراقيون كثيرون، فضلاً عن ضباط حسن باشا من مماليكه، إلى إيران، دفعاً لخطر التداعيات الداخلية والخارجية التي أخذت تهدد أقاليمها المحاددة للعراق بعد انهيار السلطة الصفوية. وكان فتح كرمنشاه على يد هذا الوالي، وفتح همدان على يد ابنه أحمد باشا، من أكثر اللحظات التي هزت وجدانه، بوصفها تمثل بداية عهد جديد من القوة والنهوض.
وإذ بدأت ذكريات أبيه تنفصل عن ذكرياته هو أيام كان طفلاً، فإنه تذكر ذلك الفيل العجيب الذي خرج إليه ليشاهده عن قرب، وهو الذي لم يكن قد غادر الثانية عشرة من عمره الغض، وكان ذلك الفيل هدية من أشرف خان الأفغاني حاكم إيران الذي وصل إلى السلطة بعد انهيار الصفويين.
ومن جهة أخرى فإنه لم ينس مشاعر الخوف والهلع التي عاشها يوم أخذت ميدنته تتعرض بين حين وآخر إلى حصار إيراني قاس، يضربه عليها نادر شاه، ذلك المغامر الذي قدر له أن يرث العرش الصفوي، والظروف العصبة التي اضطر أهل بغداد، ومنهم أهله ومعارفه، إلى عيشها في ظل ظروف الحصار. كما لم ينس مجريات محاولة الإيرانيين اقتحام السور الذي كان الكرخيون قد شادوه على عجل للدفاع عن جانبهم، ومشهد جموع أهل حيه وهم يخرجون بأسلحتهم لمواجهة جيش نادر شاه، ومنهم أبوه وأقاربه وأهلوه، الذين رووا له فيما بعد تفاصيل تلك الأحداث بدقة وتفصيل. وكان هو يشاهد، من على سطح داره، المعركة الدائرة بين مواطنيه والقوات المعادية. وهل يمكن لصبي وهو في تلك السن الغضة أن ينسى مثل ذلك المشهد الرهيب، حينما امتلأت الأرض الفضاء القريبة من سور الكرخ بالمتحاربين، من الفرسان والمشاة، فارتفع لميلأ السماء، واختلطت قعقعة السلاح بأصوات الهاجمين والمدافعين، مؤلفة هديرأً صاخباً يثير الهلع.
لقد علمت تلك الأحداث عبد الرحمن أن لا يحجم عن أداء دوره الوطني كلما دعت الظروف إلى ذلك، وكان ذلك واحداً من ثمار الوعي الجديد الذي وجد طريقه إلى أذهان الجيل الذي قيض له أن يعيش كل تلك المتغيرات السريعة التي مرت على البلاد.
ولا شك في أن عبد الرحمن، خرج من بعد تصفحه سجل ذكرياته المفعم بالأحداث المهمة، والأحاسيس العميقة، بميل حقيقي إلى أن يجعل من رغبة خديجة خانم سبباً في أن يخرج على الناس بكتاب يؤرخ فيه على السنين، تفاصيل ما سمعه، وما شاهده، وما اطلع عليه من وثائق، عن عصر وجد من المهم أن يطلع على مجرياته أهل الجيل الجديد الذي لم يكن قد عاش كل هذا أو رآه. إقرأ المزيد