تاريخ النشر: 01/07/2004
الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
نبذة نيل وفرات:"ارحلوا ودعوني وشأني، لن أرحل معكم سأموت في بيتي، وتذهب كل محاولاتكم أدراج الرياح.. وحدها التي ظلت متشبثة بلغة الحياة التي هجرتها كثير من الأفئدة، ترسم خطواتها إلى حيث تشاء من الدور المتراصفة تعرف تفاصيل حياتهم وتدون بذاكرتها الفذة تواريخ ميلادهم، وحدها تبكي عندما يهم الناس بالرحيل، تقضي اليوم ...معهم في تشييع آثار أقدامهم إلى حيث لا تعلم، وتظل تبكي إلى آخر قطرة دمع تجود بها مقلتاها. شاخ وجهها النابض بالحياة مستنفذة كل التعاويذ والتسابيح ورائحة الماضي وأسئلة الحاضر. عندما استشرى خبر قرب موعد رحيلنا عن الحي انكبت عيوش بين يدي والدتي ببكاء وزفرات متهدجة بصوت الحنين المرتجف بين شفتيها. من لا يعرف عيوش؟ أولم تنقش في ذاكرته من تفاصيل حياتها الشيء الكثير؟! كانت كالريح الطيبة ترسل أنفاسها المضمخة برائحة الماضي المكونة من معجون أجد شيئاً من تباشيره في ثياب صلاة أمي كل صباح، عيوش تسقط بين يدي والدتي تنتحب على زمن يهرب من بين يديها كحلم جميل يراود الأهداب، تسقطه بلا أسف أياد غاشمة. من يشفع لعيوش بين أيادي التغيير العابثة في وجه الحي والأحياء الأخرى المجاورة عندما كانت هي نفسها تحل في أي دار من الدور التي تحمل معها شفاعاتها: تجبر المكسور وتعين المظلوم، يحبها الصغار ويبتهج بها الكبار نساء ورجالاً... وعندما أخذ الزمن دورته مكشراً عن أنياب حادة تحملها الجرافات، وتصفح بلا هوادة وجوه المنازل المزركشة بألوان مختلفة تتكون من لون الطين وصفار أعداد التين ومسحة من الحصى الأبيض، وخطوط من نزق الأطفال وعباراتهم السمجة. لم ينج منها حتى بيت عيوش الذي تمزق أشلاء لم يبق منها سوى غرفة داخلية أصبحت أشبه بالمغارة تأوي إليها عندما يجيء الليل، وفي النهار تختلف إلى بعض الدور التي لا تزال تترنح تحت وطأة الملل انتظاراً لفرصة مواتية للهرب من وجه الحي الذي أصبح بلا ملامح سوى بعض التفاصيل الصغيرة من ماضي يلتهمه واقع مريع. كانت عيوش بقية الأمل لحياة زائلة لا محالة.. وفي صبيحة يوم شاتٍ، شهدت ليلة احتفائية ممطرة استوفزت لها القلوب الوجلة مخافة انهيار البيوت التي أكلت أجزاء منها معاول الهدم. في تلك الصبيحة، لم تخرج عيوش من مغارتها كالعادة، فلم نسمع حفيف أثوابها وعباءتها باهتة السواد. لم تخرج يدها في عنف تطرق الأبواب الغافية، كل شيء بدا يتجه عكس الزمن".
"مفارق العتمة" هي صفحات تنضج برائحة أحلام الراوي إلى مستقبل يجهله. يشده الماضي حيث كان ولا تزال خطواته تدبّ بين جنباته. يحلق كالفراشات، يزف للقارئ حكايات صغيرة مختزلة عنه وعن أهالي حيه في ذاك الزمن الماضي، حكايات ملأت فراغات عقله وهوت به بين عقارب الساعة غير المحسوبة، شكلته وقذفت به في رحم عالم رآه يكبر كالمنطاد... تعتريه خيبات صغيرة، يقفز فوقها سريعاً، يلملم أوصاله المبعثرة كأهازيج ليلة عرس موشحة بخيوط ضوء القمر؛ ويبدو كأطياف ليل مهجور، تصفر فيه الريح بين مفارق العتمة القابعة في وجوم وتبتل وسط الصحراء، حيث الرمضاء ووهج الشمس الحارقة تلفح الوجوه، وحيث الرياح المعتسفة تذرو حبات الرمال.. تحملها في صحراء النفوذ والربع الخالي، مروراً بالصمّان، حيث تختلج المشاعر الصامتة فتنبض بالحلم، ملهمة الذاكرة الشعبية بمعنى الصمود أو لربما اليأس أو الجحود، بمشاعر تتحرك كحبات الرمل على أكف الرياح... هناك ترقد مدينة الراوي المكدورة تحفها الرمال من جهاتها الأربع... تلك التي يحكي وعن ذكرياته عنها وفيها هي مدينة الرياض، التي في جزء منها حيث يقطن. إقرأ المزيد