التصوف الإسلامي السلفي ؛ أصله وأصوله في القرآن الكريم والسنة وخصائصه المعنوية والأسلوبية
(0)    
المرتبة: 145,252
تاريخ النشر: 01/01/2000
الناشر: خاص-سهام عبد الله كريدية
نبذة المؤلف:الحمد لله وهب من شاء من خلقه ما شاء من فضله، وأفاض على عباده جميعاً ما يؤهلهم للتعرف إليه والتقرب منه، ووفّق من اجتباه من عبيده فجعله من المقرّبين الأبرار، والصلاة والسلام على محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم، وبعد:
موضوع التصوّف من القضايا التي دارت حولها المناقشات وما زالت تدور حول ...نشأته، واشتقاق لفظه، واختلاف تسمياته ومدلولاته، مع تعدّد فرقه وشيوخه. ونحن مع النظرية التي ترى: أن التصوّف نزعة إنسانية ليست خاصة بجماعة من الناس دون غيرهم، فهناك تصوف نصراني، وتصوف بوذي، وتصوف هندي، وتصوف يوناني، وكذلك هناك تصوف إسلامي. فكلّ تصوّف متأثّر بعقيدته وديانته، ويرتدي لباسها، ويتلوّن بلونها.
فالتصوّف الإسلامي من حيث هو طريقة لتربية النفوس، وتطهير القلوب، والتحلّي بالأخلاق الإسلاميّة والزهد في الدنيا، كان من دعوة الإسلام. والعُبّاد كانوا يُسَمّون (زهاداً) أو(نسّاكاً) في العهد الأول، ثم سمّوا (بالمتصوّفة ) بعد ذلك، لأن مصطلح التصوف لم يشتهر إلا في أواسط القرن الثاني للهجرة، فهو تسمية متأخرة لظاهرة متقدمّة. كما أن الزهد الإسلامي لم يكن بالزهد الساذج؛ بل هو منهج عملي تطبيقي وسلوك وممارسة يومية.
وحين أكببتُ على كتب التصوف التقليديّة، أخذتُ أتفحصها، واجتهدت في الاطلاع على أسرارها، فرأيت أن هناك تفاوتاً في فرق التصوّف، وكل فرقة تقول: إنها مستندة في آرائها إلى أساس من الكتاب والسنة. والذي استرعى انتباهي أن هناك مدرسة روحية لم تحظ باهتمام الباحثين، ولم يتكلّم أحد عليها بشكل موسّع وشامل من أفرادها: النووي من حوران جنوبي دمشق (ت 676 هـ)، في (رياض الصالحين)، و(بستان العارفين). ابن تيمية من حرّان (ت 728هـ)، في كتابه (علم السلوك). ابن القيم الجوزية من دمشق (ت 751هـ)، في (مدارج السالكين) و(طريق الهجرتين وباب السعادتين) وغيرهما من كتبه. ثم ابن مفلح (ت 763 هـ من بيت المقدس)، في كتابه: (في الآداب الشرعية). وبعده ابن رجب الحنبلي من بغداد (ت 795 هـ)، في (لطائف المعارف). ثم الإمام الشوكاني من اليمن (ت 1250هـ)، في (قطر الوليّ). كان القرآن الكريم والسنة النبوية: هما النبع الأساسي لطريقتهم، وما أُثر عن الصحابة والتابعين من أقوال وأفعال وأحوال.
فال ابن تيمية: "وكذلك من بنى الإرادة والعبادة والعمل والسماع المتعلق بأصول الأعمال وفروعها في الأحوال القلبية والأعمال البدنية على الإيمان والهدى الذي كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فقد أصاب طريق النبوة، وهذه طريقة أئمة الهدى". كما رددوا أقوال المتقدمين من المتصوفة، لأن المتقدمين في نظرهم:"كانوا يخلطون ذلك بأصول من الكتاب والسنة والآثار، إذ العهد قريب، وأنوار الآثار النبوية بعد فيها ظهور، ولها برهان عظيم، وإن كان عند بعض الناس قد اختلط نورها بظلمة غيرها".
ومن هؤلاء المتصوفة المتقدمين: سلمة ين دينار من المدينة (ت 140 هـ)، وإبراهيم بن أدهم من بلخ (ت 161 هـ)، وسفيان الثوري من البصرة (ت 161 هـ)، والفضيل بن عياض من خراسان (ت 187هـ)، وشفيق البلخي من بلخ (ت 194هـ)، ومعروف الكرخي من بغداد (ت 200 هـ)، وأبو سليمان الدارني من دمشق (ت 215 هـ)، وبشر بن الحارث من بغداد (ت 227هـ)، وأحمد بن أبي الحواري من دمشق (ت 230هـ).
مما يدلّ أن هناك جسراً يصل أولئك الزهاد والمتصوفة المتقدمين من جهة، وهؤلاء المتأخرين من جهة أخرى. فهذه المدرسة دعت إلى التمسّـك بالنصّ القرآني والمحافظة عليه شكلاً ومضموناً، وإلى الأخذ بما خطّه السّلف من المسلمين الذين لم يتأثّروا في عباداتهم وزهدهم وأفكارهم بالوافد على المجتمع الإسلامي من العقائد والنوازع والأفكار وأشكال العبادات والمسالك الروحية، بخاصة: اليونانيّة، والبوذيّة، والكونفوشيوسيّة، والهندوسيّة وسواها فضلاً عن اليهوديّة والمسيحيّة اللتين تتصلان بالإسلام بكثير من القواسم المشتركة. فهذا الخطّ الروحي يمكن أن نسمّيَ أفراده: (أصحاب التصوّف الإسلامي السلفي).
والجدير بالذكر أن الذين تكلّموا على الحياة الروحية السلفية، لم يتناولوا إلا حلقة من الحلقات من هذه السلسلة الطويلة التي تتشكّل من: المتصوفة المتقدمين الذين تأثروا بالزهاد من أهل الصدر الأول، ومن المتصوفة المتأخرين بعد القرون الثلاثة الأولى الذين نهجوا نهج هؤلاء السلفيين في الحياة الروحية.فبالرغم من الفوارق الزمنية بين أفرادها، هناك اختلافات بسيطة بينهم، من حيث الاهتمامات الفردية، والمنازع الشخصية ؛ ولكنهم لم يخرجوا عن الأصول، وشكلوا وحدة متماثلة، وجماعة متآلفة، وألفوا مدرسة روحية لها منهاجها، وقواعدها وأصولها، مهما اختلفت التسمية من: تصوف أو علم سلوك أو علم قلوب، أو علم باطن، فالاختلاف ينحصر بالمصطلح.
كان من أفراد هذه المدرسة: الفقهاء والمحدّثون والمفسّرون، ومن أهدافهم القيام بحقائق الدين: قولاً وعملاً وذوقاً وسلوكاً. لكنهم لم يفردوا للحياة الروحية الإسلامية كتباً مستقلة، ولم يفصحوا عن شخصيتهم الصوفية.فهؤلاء وضعوا قواعد السـلوك وأعمال القلوب من: النيّـة والإخلاص، والتوكّل، والتوبة والصبر، والرضا، والرجاء، والخوف، والمحبّة، والتوحيد مع تربية الإرادة وتوجيهها نحو طلب الله، وترويض النفس على طاعته، وعلى الأعمال التي يحبّها ظاهراً بالجوارح وباطناً بالقلب، حتى يتذوّق المرء حلاوة الإيمان والطاعات، وليحصل عل مقام الإحسان والقرب، ومقام العبوديّة للخالق وحده.
فتصوّفهم تصوّف زهد وورع ومجاهدة ، لا تصوّف فلسفة ونظر؛ يعبّر عن تجربتهم الإيمانيّة وعن أذواقهم ومواجيدهم مما يجعل طابعه وجدانياً؛ كما يقوم تصوّفهم على التأمّل والتفكّر للوصول إلى معرفة الله من خلال آياته.
وفي رأيهم أنّ الكلام يجب أن يكون واضحاً كوضوح العقيدة الإسلامية، فلا يحتوي على عبارات وأفكار تستغلق على الأفهام، ولا يعبّر بالإشارة والرمز، ولا يكون للعبارة معنيان:ظاهر وباطن، ولا يؤول النصوص... كما تحاشوا مصطــلح (التصوّف)، لأن هذا المصطلح يشترك فيه المسلم وغير المسلم، وأطلقوا على كتبهم أسماء تعبّر عن الحياة الروحيّة الأصيلة.
ومن المثير للانتباه، أن المضمون الروحي المبثوث في كتب السلفيين لم يعطه الباحثون ما يستحق من الاهتمام، بل على العكس عـدّ بعض الدارسين ابن تيمية وابن القيّم من أعداء التصوف. فعداوة السلفيين المتأخرين كانت منصبة على الاتجاهات التي رأوها معارضة روح الشريعة، وعلى النظريات المحدثة التي عدوها من البدَع: ومنها نظرية الحلول التي جاء بها الحلاج، ونظرية وحدة الوجود لابن عربي، ونظرية الاتحاد بين المخلوق والخالق لدى ابن سينا وابن الفارض.
فهذه النظريات لم ترق للسلفيين، ورأوا فيها بعداً عن الإسلام لكونها نتيجة لامتزاج عدة فلسفات وقالوا: "إن القرآن يفرّق بين الخالق والمخلوق، وبين القديم والحديث، فالله سبحان ليس كمثله شيء، وأنّ صفاته توجب مباينته لمخلوقاته، وأنه ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، فالله لا يحل بالمخلوقات، ولا يتحد بها ولا يمتزج بها. ولا يعني هذا أن جميع المتصوفة مخطئون في نظرهم، فهم مع الآراء التي توافق الشرع، وأخذوا منها ما يوافق التصور الإسلامي، ولم يكتفوا بذلك، بل قدموا الطريق الروحي الذي تصوروه وأرشدوا الناس إليه.
آمل أن يقدم هذا الكتاب صورة واضحة عن تصوف المدرسة السلفية: عن أصوله وقواعده وعقيدته ومنهجه، وغايته، وخصائصه، وشيوخه، وموقفه من التصوف غير السلفي، ومن الأمور التي عدها من البدع في: العقائد والأقوال، والأعمال. ولعل فهارس البحث الثمانية، والتي تجاوزت ستين صفحة، شاهدة على الجوانب اللغوية والأدبية والحضارية، والدينية، والفكرية للأطروحة. وكلي أمل أن أكون قد أضفت بكتابي هذا إضافة جديدة إلى المكتبة العربية، تسد فيها ثغرة متواضعة في إلقاء الضوء على تصوف موجود مجهول في الحياة الروحية الإسلامية، الذي يشتاق إلى معرفته وممارسته الذين ينشدون الحياة الروحية الخالصة، ويتطلعون إلى تربية متوازنة معتدلة، تتلاءم مع فطرة الإنسان وأشواقه وحاجاته، ويستطيع المرء أن ينطلق منها أو يعمل على تحقيقها؛ تربية تبعث إيماناً في القلب، ودفقاً في المشاعر، ويقظة في الضمائر، ويقيناً في البصائر، في عصر مادي تكاد تندثر فيه القيم الأخلاقية، ويسير نحو الخواء الروحي، وانعدام السلام النفسي. إقرأ المزيد