تغذية الشمس (من الشعر الآسيوي)
(0)    
المرتبة: 494,322
تاريخ النشر: 01/01/1999
الناشر: المجمع الثقافي
توفر الكتاب: نافـد (بإمكانك إضافته إلى عربة التسوق وسنبذل جهدنا لتأمينه)
نبذة نيل وفرات:القارئ أمام هذه المجموعة من القصائد الآسيوية هو بصدد شعر يحاول أن يكتشف علاقات العالم لا بالوصف ولا بالتمثيل ولا بالرؤى الربوبوية الكاذبة، وإنما بالتحرك عبر نظام عمل الحواس والإشارات والرموز الذي يبتكر بذاته لغته أو مكتسباته التعبيرية والفنية والتي تضيف بالضرورة جديداً إلى خارطة الشعر الحديث في العالم. ...معظم القصائد المترجمة في هذه المجموعة يحمل طابع الرؤية الباطنية للوجود، فمداه يقرر أن مسار الجهد أو العتم الداخلي بما هو هوس طاغ بالوحدانية الصارمة، كان قد فتح له عالماً خطيراً في ذاتات هؤلاء الشعراء الآسيويين الجدد، يلخصه الشاعر الماليزي سيال عبد الرحمن في قوله: "بت لا أؤمن بما أشاهد، وإنما بما أحس فقط. عتمتي هي التي باتت تحدد الأشياء وتعانيها شعرياً... وأمانة هذه العتمة تشف دوماً عن أعمق الدلالات وتنتعش كذلك بآماد المسافات الشعرية العصبية على الاستقصاء". على أن الأمر يستدعي أيضاً، انقلاباً جذرياً في مستوى البنية الشعرية نفسها، يعكسه ذاك "الإيقاع" التركيبي المخالف لجماع الكلمات وعلاقاتها بعضها ببعض. إن خريطة الكلمات وإعادة تركيبها هو، بدوره، للوجود وإعادة إعماره.
ولا يمكن لهذه الخريطة البنيوية في النتيجة أن تتخلى البتة عن قوة التماع الروح والقلب. فالشاعر الآسيوي، الحديث، يظل هنا حليفاً للعالم القديم بما هو حال مجهولة ونوستاليجيا تجنح فيها الذكريات البائرة إلى قول نفسها من جديد على مسرح اللغة الشعرية المغايرة. قصارى القول، إن الذاكرة الشعرية لا تتوحد ثم تقوم إلا من خلال تنوع الطاقات وانتباهاتها. تلك المتعددة الوجوه والجدليات يعكسها عطاء الكلمات في غرق جميل يعقبه غرق أجمل. فالشاعر في كل لحظة يعيشها، هو ماضيه كله، حاضره كله ومستقبله كله.
وإذا كانت الثورة المعلوماتية وتطور وسائل تكنولوجيا الاتصال وانفجار مظاهر عصر الفضاء السبراني برمته قد قلبت مفهوم العالم القديم المستمر فينا، كان أول من عليه أن يستجيب لهذه الثورة ويتجاوزها هو الشاعر، وذلك ليس من موقع استجماعه صفاتها والإحاطة بأطوارها وأدوارها، وإنما من خلال محاولات القبض على ميكانيزمات أسرارها وخصوبة الشره العلمي الكامنة فيها. على الشاعر أن يمحور بفاعلية حياة جديدة تطوع رؤى الانذهال والدهشة والتنافر السحري التي تسببها شعرية العلم. لأن الشاعر في الأساس كائن مؤسس ومكتشف لإمكاناته ولمقدرتها على التشكل والتبلّد، فضلاً عن أنه منظم سحري للكلمات والإيقاعات المصورة والتعزيم الهائل للإشارات والعلامات، والتوقعات... إنه يقوم بعملية تحت يومية مضنية لتكوين حياة مفرقة تقوم خلالها جميعاً بدرس المضاعفات واستثمار الانتهاكات واستنتاج المهمات النبيلة".
باتت غربتنا زرقاء جداً بعدما كانت سوداء أو صفراء في أحسن الأحوال، هذا ما يقوله الشاعر الماليزي سيال عبد الرحمن، مشيراً إلى قوة التحدي المستقبلي التي باتت تفرضها على الجميع منصات شعرية العلم... هذه المنصات الحافلة منشودة التقرب من أسرار الكون بانفجاراتها الكبيرة والصغيرة، وما على الكلمات الشعرية إلا أن تخصص بتطويق هذه الأسرار وكذلك اقتحامها دونما تخل عن وظيفة الشعر ودوره في تعزيز الموقع الإنسانى والمنافي الخاصة بهذا الموقع. ودائماً فاعلية الإبداع تكمن في ممارسته خلق الواقع بغبطة أكثر وتصويب أعلى يمتلك القدرة على الجار بكل شيء. لا يكتب الواحد من هؤلاء الشعراء المترجم لهم إلا بعد تجربة ترسبت وتترسب فيها مقومات الانطلاق الشعري الغلاب. انهم ينسابون مع غزوات حدوسهم بأس شفاف سائغ، تمسك خيوطه، في الوقت عينه، بمعجزة الفرح العميق وتلوح بها.
وهم بذلك، إنما يصدرون عما يرونه بأنفسهم لا عمّا هو سائد، ويرفضون في استمرار تسليم قيادة الإبداعي لضجة التنظير النقدي أو سلطة الرعاية الأدبية أنّى كانت، فالشاعر، من موقعهم، لا يستخدم التعبير مرتين، تماماً كما لا يحيا مرتين، إنه ينشغل دوماً بما لا يفهمه، وبما يخرجه من الركود الرؤيوي والكتابي في آن واحد. وفي نهاية المطاف يمكن القول بأننا أمام قصائد هذا الكتاب نغتسل بالشعر الحقيقي، ونجد أنفسنا في كل ما نقرأ، فنحن هنا ازاء خارطة شوق دائمة في اتجاه الأعماق والتمزق الذي يتلف كل ظلمة وكل جفاف. وتلك هي أصلاً بعض حقائق الشعر وامتيازها على ما عداها. حقائق تشربها القلوب والعقول وتنطوي على طاعتها... طاعة الإبداع الشعري. إقرأ المزيد