تاريخ النشر: 01/12/2013
الناشر: منتدى الثقافة للنشر والتوزيع
توفر الكتاب: نافـد (بإمكانك إضافته إلى عربة التسوق وسنبذل جهدنا لتأمينه)
نبذة نيل وفرات:"لم يكن عندي أية صورة خادعة عن أحوال العالم الإسلامي، فالسنوات الأربع التي قضيتها في تلك البلاد أظهرت لي أنه في حين كان الإسلام حيّاً ما يزال، مدركاً في نظرة أتباعه وفي إعتراضهم الصامت بمقدماته الأدبية، كانوا هم أنفسهم كمثل أناس مشلولين، غير قادرين على أن يحولوا إعتقاداتهم إلى ...عمل مثمر.
ولكن ما همني أكثر من فشل مسلمي اليوم في تطبيق نظام الإسلام، إنما كانت إمكانيات ذلك النظام نفسه - لقد كفاني أن أعلم أنه لفترة قصيرة في أوائل التاريخ الإسلامي بذلت فعلاً محاولة ناجحة لتطبيق ذلك النظام، وأن ما بدا ممكناً في يوم ما أن يصبح ممكناً حقاً في وقت آخر، ما همّ - هكذا قلت في ذات نفسي - أن يكون المسلمون قد ضلوا عن التعاليم الأولى وانغمسوا في التراقي والجهل، ما همّ أن يكونوا لم يحافظوا على المثل الأعلى الذي وضعه أمامهم النبي العربي منذ ثلاثة عشر قرناً مضت - إذا كان ذلك المثل الأعلى نفسه ما زال متاحاً لكل راغب في الإستماع إلى رسالته.
وقد نكون نحن المُحْدَثين - هكذا فكرت في نفسي - بحاجة يائسة إلى تلك الرسالة بأكثر مما احتاج إليه الناس في أيام محمد صلى الله عليه وسلم، أنهم كانوا يعيشون في بيئة أبسط كثيراً من بيئتنا نحن، وكانت مشاكلهم ومصاعبهم أسهل حلاًّ وأيسر إلى حد كبير.
لقد كان العالم الذي كنت أعيش أنا فيه - كل ذلك العالم - يترنح بسبب من فقدان أي إتفاق على ما هو خير وما هو شرّ روحيّاً، وبالتالي إجتماعياً وإقتصادياً أيضاً، إنني لم أكن أؤمن بأن الإنسان الفرد كان بحاجة إلى الخلاص، ولكنني كنت أؤمن فعلاً بأن المجتمع الحديث كان بحاجة إلى الخلاص.
لقد شعرت - أكثر من أي وقت مضى - بأن عصرنا هذا كان بحاجة إلى أساس أيديولوجي، لعقد إجتماعي جديد، بحاجة إلى إيمان يجعلنا نفهم بطلان الرقي المادي من أجل الرقي نفسه، ومع ذلك يعطي الحياة الدنيا حقها، إيمان يبين لنا كيف نقيم توازناً بين حاجاتنا الروحية والجسدية، وبذلك ينقذنا من الهلاك الذي تتدفع إليه برعونة وتهور، لا حاجة بي إلأى أن أقول أن مشكلة الإسلام - ذلك أنها كانت في الحق مشكلة بالنسبة لي - احتلت تفكيري في هذه الفترة من حياتي - أعني في النصف الثاني من سنة 1926 - من دون أيما شيء آخر.
لقد نما إستغراقي الآن وفاق مراحله الأولى عندما لم يكن أكثر من إهتمام عقلي بأيديولوجية وثقافة غريبتين، ولو أنهما مشوقتين أخاذتين، لقد أصبح بحثاً عاطفياً حارّاً عن الحقيقة... أما أنا نفسي، فقد عرفت الآن أنني كنت منساقاً إلى الإسلام، ولكن تردداً أخيراً جعلني أؤجل خطوتي النهائية القطعية، لقد كانت فكرة اعتناق الإسلام شبيهة بالمغامرة في إقتحام جسر كان يصل بين هوة بين عالمين مختلفين، جسر طويل جداً بحيث يكون على المرء أن يصل إلى نقطة لا عودة منها قبل أن يرى طرفه الآخر... وأستدير في شدادي فأرى خلفي الألوف من الفرسان ثيابهم البيضاء وراءهم الجسر الذي جئت عليه؛ لقد خلفت الآن آخره ورائي، في حين ضاع أوله في ضباب المسافات والأبعاد...
هكذا يروي محمد أسد قصته على طريق إسلامه، وهي كما يقول ليست تاريخاً لحياة رجل اشتهر بدور لعبه في الشؤون العامة، وليست سرداً لمغامرة قام بها... وليست حتى رواية بحث جازم متعمد عن الإيمان، ذلك أن الإيمان، وكما يقول، قد عمد نفسه، خلال السنين، دونما أية محاولة من قبله لإيجاده... وقصته هذه لا تخرج عن كونها سرداً لإكتشاف رجل أوروبي الإسلام، ولصيرورته جزءاً لا يتجزأ من البيئة الإسلامية.
وها هي القصة: لا قصة حياة محمد أسد كلها، بل هي قصته إبّان السنين التي سبقت مغادرته جزيرة العرب إلى الهند، تلك السنوات المثيرة التي قضاها متجولاً في معظم الأقطار بين صحراء ليبيا وقمم بامير المكسوة بالثلوج، بين البوسفور وبحر العرب...
"إنني أروي هذه القصة في سياق الكلام، وقد كتبتها وأرجو أن يذكر القارئ هذا دائماً، أثناء رحلتي الأخيرة من داخلية الجزيرة العربية إلى مكة في صيف أواخر عام 1932، لأن حياتي إنما ظهرت لي أوضح ما يكون في إبان تلك الأيام الثلاثة والعشرين"... ذلك الإرتحال الطويل عبر الصحراء، عندما سرنا وسرنا وكنا رجلين على هجينين عبر الضياء السابح... إقرأ المزيد