تاريخ النشر: 01/01/1992
الناشر: دار النفائس
نبذة نيل وفرات:خمسون سنة قضاها في جهاد دائم، لم يعرف خلالها من أيام الهناء إلا قليلاً، ولم يكن إلى الراحة أثناءها إلا نذراً يسيراً. اضطلع بأعباء المسؤولية وهو شاب قوي المنكبين، لا يزيد في عمره على العشرين إلا قليلا. وترك هموم الدنيا للدنيا وهو شيخ وهن العظم منه واشتعل الرأس شيباً. ...ولكن كم كان الفارق كبيراً بين ما كانت عليه أندلس المسلمين يوم تولاها الناصر، وبين ما أصبحت عليه يوم سلم الأمانة لابنه الحكم المستنصر حتى يتابع السير بأندلس المسلمين على النهج الذي سار والطريق الذي رسم. كانت الأندلس تضطرم ناراً، والفتن في كل مكان. وأعداء الخارج يتربصون بأعداء الداخل، وهؤلاء يتربصون بعضهم ببعض، قد شغلتهم صغائر الأمور عن كبائرها، وصرفتهم الدعة والسكون عن التفكير بعظائمها. فجاء الخليفة الناصر لدين الله، يحمل هم الشباب وحكمة الشيوخ، ويتمثل في تكوينه كل الإرث الأموي الذي ما عرف إلا العزة للعرب المسلمين عن طريق رفع راية الإسلام والجهاد في سبيل الله، فالعزة لله ولرسوله وللمسلمين، لا يرضون بالهوان مذهباً ولا بالذل لغير الله ملتمساً ومسكلاً. ولم يكن مجتمع المسلمين في الأندلس فقيراً بموارده، ولا ضعيفاً بإمكاناته، غير أن تلك الموارد كانت تذهب مزقاً، وتتفرق بدداً وهي تضيع في صراعات تبتعد بالمسلمين عن السبيل القومي. وارتفع الناصر بثاقب نظره عن مسيرة تيار الأحداث فعامل أعداء الداخل بمزيج من اللين والعنف، وعفى وصفح عن كثير. وتآلف القوم، حتى لانت له النفوس، وهدأت الخواطر الثائرة.
ولم يكن مجد أندلس المسلمين أيام الخليفة الناصر قائماً على القدرة الاقتصادية، وإن كانت هذه القدرة هي القاعدة الأساسية لبناء الدولة العظمى، كما أنه لم يكن قائماً على القدرة العسكرية وإن كانت هذه القدرة هي أداة بناء الدولة المزدهرة، وكذلك لم يكن مجد أندلس المسلمين أيام الناصر لدين الله قائماً على العلم والمعرفة، وإن كان ذلك هو الترجمة العملية والأمنية لاقتران القوة العسكرية بالقوة الاقتصادية. وإذن فقد كان مجد أندلس المسلمين قائماً على التكامل في دفع القدرات والإمكانات المتوافرة عبر كل الاتجاهات التي تخدم الغرض الواحد وهو تعزيز دول الإسلام والمسلمين من خلال حشد كل قوى المسلمين، فكيف استطاع رجل واحد تحقيق ذلك كله؟
الجواب كامن في التجربة التاريخية التي عرفها العرب المسلمون بفضل معاناتهم الذاتية وهي التجربة القائمة على الاقتران الناجح بين العوامل الثلاثة: الإخلاص في حمل رسالة الإسلام وحشد المجاهدين وتوجيههم للجهاد تحت قيادة مؤمنة ومخلصة. وتظهر سيرة الخليفة الناصر لدين الله مدى خضوع الناصر للمخلصين بصدق لقضية الإسلام والجهاد في سبيل الله، واستجابة المسلمين لنداء الجهاد عندما عرفوا صدق الدعوة الموجهة إليهم.
وتبقى سيرة الخليفة الناصر لدين الله خالدة مدى الدهر، رغم زوال الزهراء، ورغم إخراج المسلمين من أندلسهم. ذلك لأنها سيرة رجل في حياة أمة، وحياة أمة في تاريخ رجل. إقرأ المزيد