تاريخ النشر: 01/01/1999
الناشر: دار الكتب العلمية
نبذة نيل وفرات:كان شيخ الإسلام ابن تيمية أمة وحده في تدبر القرآن والسنة، واستيعاب معانيها، والكشف عن كنوزهما الغالية، وإدراك دقائقهما ببصيرة تكاد تلمع بوارقها وراء الأفق، وفكر يستدني الأعصم من ذروة القمة ولعل ذلك بيّن عند الكثيرين ممن أعجبوا بابن تيمية أو خاصموه. بيد أن هناك جانباً عظيماً من جوانب ...العظمة في ابن تيمية لما يزل مجهولاً، ذلك الجانب انه عبقري من عباقرة الفكر الإنساني، لا في الشرق وحده، بل في العالم كله، فقد بدّد حجته من كتاب الله وهدي رسوله ما زعمه المتفلسفون من خصومة الدين للعقل، أو تجافيهما.
وأقام البراهين الساطعة على توافقهما وتآخيهما، إذا وضعا الوضع السليم: على أن يكون الدين أصلاً للعقل، ومآباً يفئ إليه، إذا حيّرته متاهات الظنون، إلى جانب ذلك فإن ابن تيمية سبق فلاسفة الغرب ومفكريهم إلى نقد المنطق الأرسطي، وبيان ما فيه من نقص وخلل ناضل الفلاسفة متسلحاً في ذلك بالمنقول الصحيح، والمعقول الصريح. فجمع بين القوتين.
وهذا الكتاب خير دليل على ذلك ففيه نقض ابن تيمية المنطق الأرسطي وأتباعه وذلك البيان زيغ وزيف المرتكزات التي يستند إليها أهل علم الكلام وبعض الفرق التي تعددت واستشرت بدعها في زمانه. لذلك تحدث في قسم الكتاب الأول عن مذهب السلف في الاعتقاد وصحة نسبة هذا المذهب إليهم، عارضاً آراء أئمة السلف، وأئمة المذاهب الفقهية في هذا الموضوع، وبعد هذا يدلل ابن تيمية بالنقل والعقل على أن السلف أعلم وأحكم أرباب المعتقدات في الإسلام، مفاضلاً بين بعض الفرق وبعض، جاعلاً النسبة في الأفضلية، على نسبة القرب من السنة.
ويبدع ابن تيمية في الحجاج حين يذكر ما عابه المفترون على أهل الحديث من قلة الفهم والمعرفة، ويرد على فريتهم رداً قوياً محكماً، مبرهناً على دقة الفهم وشمول المعرفة عند أهل الحديث. ثم يذكر المتكلمين، مبيناً وهن اعتقادهم واضطرابه، وأنهم أعظم الناس شكاً وحيرة في النهاية ولابن تيمية هنا من لمعات الذهن، وبوارق البصيرة، وتألق الإدراك النفسي والعقلي: ما يكاد يجلي غيوب الظواهر النفسية والفكرية. ثم عرج على حصول العلم في القلب عقب النظر في الدليل، وهل هو بالتولد كزعم المعتزلة، أم بفعل الله، كقول الأشاعرة، أم بفيض عن العقل الفعال، كما يهذي الفلاسفة؟
يعرض ابن تيمية هذا، ثم يكرّ بالدليل، فيهدم ما بنى الفلاسفة، ويجلي الحق الحائر بين الأشاعرة والمعتزلة مبيناً كنه النظر المفيد للعلم، مبرهناً على أنه ما اعتمد على دليل هادٍ، وأن الدليل الهادي لا يكون إلا من القرآن أو السنة عارضاً في استطراده أنواع النظر. ويعود ابن تيمية إلى علماء الكلام، فيصفهم باضطراب الأدلة، وبالتناقض، والتذبذب، والأخذ بالرأي مع نقيضه، مقارناً بينهم وبين أهل الحديث في هذه الناحية، فيذكر الثبات على العقيدة، وعدم التناقض، والنأي عن مهاوي الفكر، ومزالق الرأي، وأن كل ذلك لأهل الحديث. ثم يحكي ما اتهم به المتكلمون أهل الحديث من أنهم مقلدون، مفكرون لحجة العقل، ليسوا أهل نظر واستدلال، ويرد تلك التهمة عن أهل الحديث بما أثر عنه من قوة الحجة وسطوع البرهان، ثم يتحدث عن الاتحاديين والجهميين، ورأيهم في الوجود الإلهي، وصفاته، مبيناً أن خاتمة المطاف للمؤولة: شك وريبة وحيرة بالغة.
ثم يتحدث عن الشيعة وزعمهم اختصاص علي بن أبي طالب رضي الله نه بعلوم وأسرار ليست في كتاب الله، ويتحدث عن الكتب المنسوبة إلى أئمتهم، كالجفر وسواه، مدللاً على زيف كل هذه المزاعم ويستطرد ابن تيمية، فيتحدث عن التفسير وجواز الترجمة. ثم يفيض في الحديث عن الملائكة. ثم يعرض أسطورة الفلسفة الميتافيزيكية "الله لا يصدر عنه إلا واحد" ويبلغ ابن تيمية الزروة حين يبين بالحجة العقلية زيف هذه الأسطورة هنا وفي منهاج السنة، وفي مجموعة الرسائل الكبرى وغيرها. ثم يعرض لرأي من قال: إن الحشدية على ضربين: مشبه مجسم-ومستتر بمذهب السلف. ويعقب عليه بيان الحق في هذا، مبيناً معنى هذه الكلمات "التوحيد" التنزيه، التشبيه، التجسيم" مثبتاً حقيقة التوحيد الذي جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام، متعرضاً من ثم لقول من زعم: أن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم. مظهراً فساده، موضحاً أن السلامة والعلم والحكمة في مذهب السلف.
ثم يتحدث عن الفلاسفة والباطنية وزندقتهم في زعمهم: ان الرسول لم يبين الحق المستور في باب التوحيد، رامياً إياهم، وعن دليل، بالزندقة والكفر. وأخيراً يعرض ما رمى به ابن الجوزي الحنابلة من التجسيم. مبيناً الحق جلياً واضحاً في هذه المسألة، ناقلاً خلاصة هامة عن أبي الحسن محمد بن عبد الملك الكرجي الشافعي في كتابه "الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول" عن السنة وفضائلها وعن مذاهب الأئمة الأعلام في الصفات والأسماء الإلهية هذا ما جاء في القسم الأول من كتاب ابن تيمية الذي نقلب صفحاته "نقد المنطق" أما القسم الثاني ففيه نقد المنطق.
وفيه تتجلى العظمة الفكرية والعبقرية الفذة للإمام ابن تيمية، ويحيض الباحثون على الحق والحقيقة حين ينتسبون إلى "بيكون" و"جون ستيوارت مل" وأضرابهما من مفكري الغرب وفلاسفته الفضل الأول والأخير في تقويم المنطق الأرسطي، وضبط منطق الاستقراء أو في المواءمة بين المنطق الصوري والمنطق المادي بسلميهما يعرّج العقل الإنساني إلى قدس الحقيقة. نعم هاجم هؤلاء المنطق الأرسطي-متهمين إياه بالآلية والتعقيد، وفرط عنايته بالناحية الصورية لا بالملاحظة والتجربة وهي الوسيلة الناجعة لفهم ظواهر الكون، وبالقياس لا بالاستقراء الذي هو أقدم سبيل لكسب المعلومات والوصول إلى المعرفة، لكن ابن تيمية كان أسبق منهم جميعاً، إذ نقد المنطق الأرسطي، في عصر كان فيه ذلك المنطق صم الفكر المعبود، نقده نقداً صحيحاً زلزل من هيكله، وهتك قناع القداسة الزائف عن وجهه، ليبدد في صورته الحقيقية. إقرأ المزيد