تاريخ النشر: 29/08/2022
الناشر: دار ابن كثير
نبذة نيل وفرات:إنه لا يخفى على كل طالب علم ما للعلم من أهمية، فهو الغذاء للعقل، والروح للجسد، فيه ترقى الأمم وتنهض، وبدونه تسقط وتُخفَض.
وقد ذهب أهل العلم في التصنيف طرائق قدداً، وسلكوا سبلاً شتى، فلكلٌ وجهةٌ هو موليها، ومن ضمن هذه الطرق: علم اللغة العربية، مشكاة العلوم، ومفتاح الفنون، علوم ...الآلة، لغة القرآن، من أتقنها سهُل عليه فهم النصوص، ومن رعاها فقد أوتي خيراً كثيراً.
وإلى ذلك، فإن علوم اللغة تشعبت وتنوعت؛ ومن أنواعها "علم الأدب" الذي يعنى بضبط العبارات والتراكيب والحمل، وأساليب الكتابة والإنشاء، ونحو ذلك.
ومن أنواع الأدب من المقامات التي سلكت مسلك النثر في إيصال المواد، وتتنوع موضوعاتها، فمن تعليمية، إلى وعظية وإرشادية، وإلى نقد، وإلى وصفٍ... وهلم جرّا.
وإن الذين كتبوا في المقامات كثر عدَّ منهم حاجي خليفة "في كشف الظنون" أربعة وعشرين مؤلفاً، أو لهم ابن بسام أبو الحسن علي بن أحمد البسامي الحنفي الشاعر المتوفي سنة (٣٠٣هـ)، وما زال أهل العلم إلى يومنا هذا ينشؤون ويكتبون في هذا الموضوع.
ولكن تبقى مقامات الحريري متصدرة كتب المقامات، فعندما تُذكر المقامات، فإن أول ما يتصرف الذهن لها لموضوعاتها ومضمونها ولبلاغتها وقوتها وفصاحتها، فاشتهرت؛ بل تواترت وطارت في الآفاق، حتى قال الزمخشري عنها: "أقسم بالله وآياته، ومشعر الحج وميقاته أن الحريري حريٌّ بأن تكتب بالتبر مقاماته".
والحريري هو الإمام اللغوي العلامة الأديب البارع حامل لواء البلاغة وفارس النظم والنثر أبو محمد القاسم بن محمد بن عثمان الحريري البصري الحراميّ، ولد سنة ٤٤٦هـ في قرية المشان، بُليدة بالبصرة، ونشأ بها، ثم سكن البصرة في محلة بني حرام، كان دميماً قبيح النظر، وكان مع ذلك من رؤساء بلده، غنيّاً من أهل اليسار، وكان له ثمانية عشر ألف نحلة، وكان أعجوبة الدهر ونادرة الزمان، غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وكفاه شاهداً كتاب المقامات التي أبرّ بها على الأوائل وأعجز الأواخر.
عاش الحريري في زمن الخلافة العباسية، فعاصر أربعة من الخلفاء العباسيين: كان شافعي المذهب، وللحريري عدة مؤلفات: ١-المقامات، ٢- درّة الغواص في أوهام الخواص، ٣- ملحة الإعراب وهي منظومة في النحو، ٤- شرح ملحة الإعراب، ٥- ديوان شعر، ٦- ديوان جمع فيه رسائله.
كان الحريري متواضعاً، ويلحظ القارئ ذلك في مقاماته، كما يلحظ تدينه بشكل واضح، يتجلى ذلك في مقدمة مقاماته وفي نهاياتها؛ توفي الحريري سنة ٥١٦هـ، وقيل ٥١٥هـ بالبصرة.
هذا وقد اشتهرت المقامات بهذا الإسم فقط، واشتملت موضوعاتها على كثير من كلام العرب، من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها، وقد كشف الحريري في مقدمة "المقامات" عن موضوعاتها، فقال: "تحتوي على جدِّ القول وهزله، ورقيق اللفظ وجزله، وغرر البيان ودُرَرِه ومُلَحِ الأدب ونوادره، إلى ما وشمتها به من الآيات ومحاسن الكتابات، ورصعته فيها من الأمثال العربية واللطائف الأدبية، والأمامي النحوية والفتاوى اللغوية، والرسائل المبتكرة والحُطَب المحبّرة، والواعظ المبكية والأضاحيك الملهية"، ومن عرفها حق معرفتها استدلّ بها على فضل هذا الرجل وكثرة إطلاعه وغزارة مادته.
هذا وإن لكتاب "المقامات" عدة طبعات، بعضها أفضل من بعض، ولكن لما كان لأهمية "المقامات" المكانة المعروفة، أحبّ المحقق إبرازها بالصورة والطريقة التي أرادها مؤلفها، لذلك سلك إلى ذلك تحت خطوات وصولاً إلى تحقيق تلك الغاية: ١- مقابلة المقامات على أربع نسخ خطية، ٢- اعتماده في المقابلة على نسخة الإمام اللغوي الصّنعاني (ت ٦٥٠).
وتعدّ هذه النسخة أدق النسخ الموجودة، كونها مقابلة على نسخة المؤلف نفسه، ولعل هذه أهم ميزة لهذه الطبعة من المقامات تميزها عن باقي الطبعات، ٣- اعتماد المحقق في الضبط على نسخة الصَّنعاني، وما كان له ضبطان عمد إلى ذكره بكلمة (معاً) فوق الكلمة المضبوطة، مشيراً إلى ما جاء في غيرها، ٤- نقل حواشي الصّنعاني كما هي، وإثباتها بحروفها، ٥- الإعتناء بضبط النص عناية دقيقة، والمبالغة في ذلك، وتكرير النظر فيه، من خلال تشكيل كامل الكتاب، ٦- إثبات الفروق التي بين النسخ الخطية، ٧- إثبات ما اقتبسه الإمام الحريري من كتاب الله تعالى بخط مصحف الحرفية، ٨- تخريج ما يحتاج إلى تخريج من الأحاديث النبوية، والأبيات الشعرية، مع ذكر بحورها، ٩- وضع مقدمة تعريفية موجزة عن الكتاب، وتذييله بالفهرس المناسب. إقرأ المزيد