تاريخ النشر: 22/10/2019
الناشر: مؤسسة الإنتشار العربي
نبذة نيل وفرات:" خال أبي يومذاك أن له عينين مبصرتين يمكنه الوثوق بهما ، يعوّل عليهما في تلمّس طريقه . لذلك السبب ربما التحمت كفّ يده اليسرى بكف يده اليمنى ، وارتخت يمناه على العصا البيضاء ، علّقها في ساعده إثر ذلك . رأيتها تسبح في الهواء في مسار مستقيم لا ...تخبّط يمنة ويسرة ، مثلما تعود أن يحركها حين يشقّ دربه وحيداً . تساءلت كيف يرى أبي بالعصا ، ويتفادى بها العربات الرابضة فوق الرصيف ، ويهتدي بها إلى باب منزلنا ، ويدفع بها أذى كلب الجيران . كنت مأخوذاً ، شارداً في الرجل الذي تراءى جانب وجهه أراه توّاد ولم يكن الوجه المألوف الذي خبرته طوال سنواتي العشر . سرحت برهة في ملكوت الله وتدبيره في مخلوقاته ، فسقطنا معاً في الحفرة الواسعة متماسكين بالأيدي ، وطارت العصا لتقع وحيدة في مفرزة من الأعشاب . ولأنها لم تخذله قط مثلما فعلت ذلك اليوم ، فقد هبّ يبحث عنها متسلقاً الحفرة بيديه الإثنتين . رأيته يجثو على ركبتيه قبل أن ينفض عن ثيابه التراب ويستقيم واقفاً ، بينما علقتُ في الحفرة العميقة وقتاً إضافياً . تابعنا يومذاك السير منفصلين . أي في المقدمة ساخطاً مزمجراً . يضرب بالعصا يمنة ويسرة كدأبه بينما تخلفتُ عنه ، مجرجراً ساقيّ بالرغم من أنه صرفني وزجرني لأن أعود إلى البيت لأنه سيواصل المسير برفقة سميرة كلّ الأوقات . كانت كلمات الإعتذار تجول في رأسي ، أنضدها ، أقلّبها وجهاً وقَفاً ، تنزل إلى طرف لساني ، تزدحم تعلق هناك . كيف سأعتذر له عن أنني لم أرَ الحفرة ؟ وكيف سأبرر له تعطّل عيني أو عماها وهما سليمتان لا تشوبهما علّة ؟ كيف سأستعيد ثقته بقادم الأيام وأقنعه أن يعوّل عليّ ويصحبني مجدداً ؟ وددت يومذاك أن أقتلع عينيّ من محجريهما ، أهبها له ليضعها مكان عينيه المسمولتين ؛ لأنه يحتاج إليها أكثر مني ، وأقفل راجعاً بمفردي ، لكنني تابعت خفره من الخلف ، أحرسه من البعيد في ولاء كلبيّ عجيب ، أويت إلى فراشي في المساء باكراً على غير العادة يتناوب على جَلْدي الجوع والشعور بالذنب وآلام حادة تدق كالمسامير في مفاصلي ودموع تحتشد في مقلتيّ . تغيّبت عن العشاء احتجاجاً ، ليس على طبق المعكرونة الكذابة التي أعدّتها أمي فقط ، بل على القدر الذي وهب لي أباً ضريراً أيضاً ، بعد أن أقنعت نفسي أن ما حصل لست وحدي المتسبب به . لم أنجز فروضي المدرسية المعتادة . انسحبت هارباً من عيون الجميع التي حاصرتني باللوم والعتب ، متفادياً بالأساس عينيّ أبي اللتان كانتا تحوقلان في عتمتهما الدائمة ، وكأنهما تتعقبانني في حجري الذي لجأت إليه لتلقيا فوقي ما تبقى من حمولة السخط والعتب . تركتهم مجموعين حول المهزوم في بصره وإبنه . وضعت أمي أمامه آنية من الماء الساخن المملّح . راحت أختي الكبرى تغمس فيها خرقة من القماش الأبيض ، تعصرها وتمرّرها فوق الكدمات والبقع المحتقنة التي تناثرت فوق ركبتيه .. انهمكت الوسطى تنتزع الأشواك التي علقت بكفيه ... لم يكن لي أي دور في حفلة الإهتمام وتقديم الولاء تلك فقد كنت المذنب المنبوذ الذي كان عليه الانسحاب يصمت ... لم يغمض لي جفن طوال الليل .. كنت قد تفحمت حزناً وكمداً تلك الليلة على نفسي وأبي ، أنتظر اقتراب أحدهم ، يحزنني بإصبع ، أو يبادرني بكلمة لانخرط في بكاء مرّ . مشهد السقوط المهين في الحفرة لم يفارق مخيلتي . نظرات إخوتي الطافحة باللوم والعتب ضيّقت عليّ الخناق ، كذلك الآهة العميقة التي أطلقها أبي على وقع السقوط الغادر ، قبل أن يعقبها بكلمتين طعنني بهما في مقتل : " يعطيك لَعمىَ في عينيك . ظلّت الكلمتان الفجتان تجلدانني دون رحمة طوال الليل لكأنها سوطٌ يرفعه أبي عالياً . كنت أسدّ أذني بإصبعي حتى لا أسمعها من جديد . ... كنت مرعوباً من هجران أبي لي أسابيع طويلة ، ليس لأنني أسقطته في الحفرة ، وليس لأنني تسببت له بآلام مبرحة ، ولكن لأنني أجبرته على الدعاء عليّ بالعمى الذي لا يتمناه لأحدنا " مشهد يفتتح به الروائي تلك الحكاية التي تحفل بأحداث تتكشف عنها معاناة وعذابات .. تترك ندبات جروح عند الأولاد نتاج قسوة الأهل .. ندبات وجروح ترافق مراحل حياتهم الغضّة ، وشعور بالنقص يستأثر بهم إلى درجة الإحباط واليأس بمقدراتهم .. يدفع الروائي بشخصياته لتمثل كل منها دوراً وشخصاً .. محاكياً بذلك واقعاً يعجّ بمثل تلك النماذج . يحض مع شخصيته المحورية التي مثلت الراوي ، الإبن الذي كان تعثر في حياته الدراسية والعملية مادحاً إلى درجة جردته من مقومات رائعة كان يتمتع بها ، ولحظة انعتاق من كل ما علق به في طفولته .. يخلع عنه ثوب المحنة والفشل الذي ألبستهما إياه قسوة الوالد ، ليراهن على قدرته في تجاوز محنته في وقفة تحدي لنفسه وأبيه يحلق الراوي غالباً في سماءات النجاح ، روائي ملهم وسرديات تستأثر بالقارىء .. ليتابعها بشغف حتى النهاية . إقرأ المزيد