تاريخ النشر: 01/06/2018
الناشر: شركة دار الخيال
نبذة نيل وفرات:"ما شاء الله!! كبرت وبات بإمكانك قيادة زورق بمفردك، قال الرجل ولوّح بيده العالية التي ترفع فانوساً، على شكل إجاصة ضخمة، تتوهج بضوءٍ برتقاليٍّ مبهر، ظهرت خلفية المشهد بلون بنفسجي مبهج، وفي ثياب الرجل تصاعدت أنجدة بيضاء، كأنها خارجة لتوّها من تحت مكواة صافية، تجدني حيث وجدتني دوماً.
همس الرجل ...بعبارته الأخيرة، وانطفأت بغتة ذبالة الفانوس، هو هناك إذاً، أمام بوابة الكوخ الخشبي يدخن واقفاً، ينظر إلى ساعته من حين لآخر محصياً تعب الأولاد الراكضين فوق الماء، لكن النهر!!... أين النهر!!... لم يظهر أمام ضوؤ الفانوس ولا خلف الأبخرة البيضاء، ولا في العمق البنفسجي النقي، حين فتح عينيه، رأس السقف المطلي بالدهان الزيتي الأبيض المشرق، وسمع نداءات أخته، تطالب بطبق إضافي من مربى الورد، الذي صنعته أمهم قبل أيام، في بواكير الموسم الصيفي لإعداد المربيات، بعدما استلمت عصى هذا السباق الموسمي من الجدّة "فردوسة" في إعداد المؤونة والمربيان، وكنّ قد التقطن ما غاب عنهن من أنواع الفاكهة في بلدتهن، الواقعة على تخوم الجزيرة السورية، تعلمن في هذه المدينة الكبيرة الفنية بالأطعمة، التي أتقنت المهارات التي تنقل منتجات الطبيعة من بساطة الطهي، التي تحول كل شيء لمطبوخ، إلى فنون تتوضع على زخرفة الطعام، وتجميله، والتلاعب في طعومه، بإضافات دقيقة للبهارات والتوابل وخلاصات الأعشاب، طرائق حولت الفاكهة الموسمية الطازجة، من غاية الحفظ، لإعادة إستخدامها خارج موسمها، إلى أنواع من المربيات السائلة لمائدة الإفطار أو العشاء، والمربيات الجافة التي تقدم للضيوف، فوق أطباق خزف مع أشواك صغيرة، مربيات من ثمار الفاكهة والنباتات الماجدة، المشمش الذي تصل ثماره بعد رائحتها، الجوز المقمط بأسراره العميقة، القرع الذي يحبس أنفاسه كإمرأة في شهر ولادتها، الكبّاد بخفة دمه وكبريائه المتثاقل، الباذنجان القزم بعد تمرده على الوجبات اليومية، مكثفات عصائر البندورة والبرتقال والليمون والحصرم، مربى الكرز وخلاصات الشرابات من عصائر حبيباته الطازجة، والشراب الكريم، الذي يحضر من حبيبات كرز "الوشنة" الناعمة الفريدة مع السكر، ومنكهات من أسدية القرنفل الجافة، وعيدان القرفة، يضاف إليه بعد ذلك العرق، ويترك في حوجلة شديدة الإغلاق مما يدفعه طواعية للتخلي عما ينسبه للمربيات، ويأخذ الإسم الحائز على بهجة الأعياد وأسرارها المخبوءة: العنبرية، ينقلن المربيات والشرابات، بعد سكبهم المتأني في الأوعية الزجاجية والقناني، بسلال من الخيزران، إلى غرفة القبو المعتمة الباردة، في أسفل العمارة، هي ذاتها التي عبرت قبل دقائق، قرب السرير ولامست ذراعه العارية لينهض إلى الإفطار، لكن فقد لبرهة المقدرة على التذكر، هل لمسة أمه من أيقظه، أم الإنطفاء المباغت لذبالة الفانوس؟!!!...
هي لحظة تنسل منها على حين غفلة صورة ثم ومضات تلمع فتندفع المشاهد كأنها أمواج تتدافع... دافعة أمامها زمن بأحداثه وهيئاته وشخوصه... هي ماض مترع بالأحداث والمواقف والتغيرات تأخذ بذاك الإنسان ليعيش بعد أن فاحت تلك الروائح الغبيرية ذكريات أيقظت الحنين إلى الأم والأب والخالة... والأخ والأخت... استمالت معها الأشياء إلى حقائق... منها هو الحنين يدفع بحركة يتجاوب معها.. وكأنها لمسة أمه... يفرق الراوي في ذاك الزمن الذي بدأ مع قرار العائلة في الرحيل من بلداتها في الجزيرة السورية، أواسط الخمسينات... وصولها إلى حلب في أواسط الخمسينات... حيث نزلت في الأسابيع الأولى ضيقة على خالتهم "وردة" الأخت الكبيرة لأمهم "فردوسة"، الكائن في أطراف هي "السليمانية"، لحين إيجادهم بيناً، يناسب أسرة مكونة من أبوين وخمس أبناء، شابات وثلاث فتيات تجاوزوا العشرين من العمر...
هكذا يأخذك الراوي إلى تلك الأماكن في حلب فتعيش فترات شهدت فيها حلب المدينة... حلب البشر تلك الأحداث والتطورات التي طالت الحجر والبشر.. يرصد الراوي جميع التغيرات التاريخية والسياسية والإقتصادية والعمرانية... يرصدها بريشة الفنان، وبقلم القاص، وبلغة المؤرخ... تمضي معه مستمتعاً حيناً... ومنتبهاً أحياناً إلى عذابات الإنسان في كل زمان ومكان فينتابك حزن... تزيحه ومضات فرحة... والراوي بين هذا وذاك حكواتي يسرد حكاياته الممتعة المشوقة... وقاص يجذب القارئ بأسلوبه السلس... وبلغة السهل الممتنع... تمضي متماهياً مع حكاياته إلى النهاية. إقرأ المزيد