هل اعتقد الإغريق بأساطيرهم؟ ؛ بحث في الخيال المكون
(0)    
المرتبة: 10,969
تاريخ النشر: 02/08/2016
الناشر: هيئة البحرين للثقافة والآثار
نبذة نيل وفرات:هل كان الإغريق يعتقدون بمثيولوجيتهم؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن "الاعتقاد" يعني أموراً كثيرة.. فالإغريق لم يكونوا يعتقدون أن مينوس (Minos) استمد قاضياً في الجحيم، ولا أن تيزيوس (Thesee) قد صارع المينوثور، كما لم يكن يخفى عليهم أن الشعراء "يكذبون". غير أن طريقتهم في عدم الاعتقاد بهذه الأمور ...لا تورث قلقاً؛ لأن تيزيوس يبقى، في نظرهم، موجوداً، وجلّ ما يقتضي عمله هو تطهير الأسطورة بالعقل، واختزال حياة رفيق هرالكيس إلى نواتها التاريخية. أما بالنسبة إلى مينوس، فقد خلص ثوسيديس (thucydid)، في ختام مجهود فكري غرائبيّ، إلى استخراج النواة عينها بشأنه، قائلاً: "من بين جميع من عرفناهم بالسماع كان مينوس أقدم من امتلك اسطولاً بحرياً"، بذلك لا يعود والد فيدر (Phedre) وزوج باسيفيه (pasophae) أكثر من ملك يبسط سلطانه على البحر.
لم يكن تطهير الأسطوري باللوغس (logos) مجرّد حلقة من حلقات الصراع المُضني الذي قد يكون في أساس مجد العبقرية الإغريقية، بين الوهم الخرافي والعقل، وهو صراع استمرّ قائماً منذ فجر التاريخ إلى فولتير ورينان.
إنّ العلاقة بين الأسطورة واللوغس ليست، على الرغم من نستله (Nestle) علاقة تعارض كتلك التي بين العاطل والحقيقي، وقد شكّلت الأسطورة موضوع تأملات رصينة، لذا لم يتحرر الإغريق من سطوتها، حتى بعد انقضاء ستة قرون على حركة السفسطائيين التي يقال أنّها كانت [للإغريق] بمثابة عصر الأنوار [للفرنسيين].
إنّ تطهير الأسطورة باللوغس ليس انتصاراً للعقل؛ بل برنامجٌ موغل في القدم، مدهش بعبثيته: لماذا قضى الإغريق على أنفسهم بالتعاسة من أجل لا شيء، حين اعتزموا فصل الحنطة عن الزؤان، بدلاً من أن يطرحوا في الخريف، دفعةً واحدةً كلّاً من تيزيوس والمينوثو، ووجود المدعوّ مينوس، مع كل ما ينسبه التقليد إلى هذا الأخير الخرافي من أمور خارجة عن المعقول؟ إذا علمنا أن هذا الموقف من الأسطورة دام مالا يقلّ عن ألفي عام أدركنا مدى أهميّة هذه المسألة.
من هنا كان لابد من الإقرار بضرورة الكلام على حقائق بدلاً من الكلام على معتقدات، وبأن الحقائق المذكورة كانت هي نفسها تخيّلات؛ فنحن لا نكوّن فكرة مغلوطة عن الأشياء؛ بل إن حقيقة الأشياء هي التي يجري تكوينها على نحوٍ غريب عبر العصور، فلا يصح القول إن الحقيقة هي الاختيار الواقعي الأكثر بساطة، وإنما الأكثر تاريخية. قديماً كان الشعراء والمؤرخون ينسجون حول السلالات الملكية روايات خيالية تسمّي كل حاكم باسمه وترسم شجرة نسبه. هؤلاء لم يكونو مزوّرين ولا من أصحاب النوايا السيئة، لكنّهم كانوا يعتمدون النهج المتعارف عليه آنذاك لبلوغ الحقائق.
فإذا تتبعنا هذه الفكرة حتى النهاية تحققنا أننا على غراراهم، نعتبر حقيقياً ما نسميه أوهاماً تخيلية ساعة نطوي الكتاب، وأنّ عوالم الألياذه وأليس في بلاد الغرائب، هي عوالم حقيقية بما لا يقل عن شخص فوستيل دوكولانج نفسه ولا يزيد، لذا كنّا ننظر إلى مجمل نتاج الماضي على أنّه أحلام يقظة، جديرة بالاهتمام طبعاً، ولا نعتبر حقيقياً – بصفة مؤقتة – سوى "آخر ما توصل إليه العلم". تلك هي الثقافة. ليس القصد بذلك أن الخيال ينبئ بالحقائق المستقبلية، ما يفرض أن يكون له تأثير ونفوذ، وإنما القصد أن الحقائق هي أصلاً تخيلات، وأن السلطان كان دوماً للخيال، أجل للخيال، وليس للواقع والعقل، ولا لعمل السلبي الوئيد [...].
وهنا تبرز التساؤلات التالية: هل اعتقد الإغريق حقاً بأساطيرهم؟ وإذا كان كذلك، فكيف أمكن لشعب الفلاسفة وعلماء الرياضيات أو لـِ "أولاد العقل" أن يكون لهم هذا الاعتقاد؟ ما طبيعة الأساطير، وكيف اعتقدوا بها ولماذا؟ كيف كانت تضاغ؟ وكيف كان تلقّيها؟ ما الخصائص التي كانت تجعل منها "حقائق" في أذهان الناس؟ ما العلاقة التي كان يوجدخا مخيال السرد مع الواقع التاريخي؟ عن هذه التساؤلات يحاول "بول فاين" بدقة العارف بتاريخ الإغريق وثقافتهم، وهو إذ يجيب عنها إنما يجيب عن أسئلة مماثلة لها تطرحها أساطير شعوب وثقافات أخرى، ويفسح المجال للتفكر في أساطير عصرنا التي تحتاج، هي الأخرى، إلى "التطهير بالعقل". إقرأ المزيد