تاريخ النشر: 01/09/2015
الناشر: دار الأرقم
نبذة نيل وفرات:في قرية جاسم، على ثمانية فراسخ من دمشق، ولد وعلى يمن الطريق الأعظم إلى طبرية... ولد أبو تمام حبيب بن أوس الطائي؛ هذا وتتباين الأقوال في تاريخ ولادته وحقيقة نسبه؛ قيل أنه ولد سنة 172هـ/ 788م.
وفي رواية أن ولادته كانت سنة 180هـ، وبينما ذكر هو أنه ولد سنة 190هـ، ...قال ابنه الوليد: ولد أبي سنة 188هــ وكان سنة 231هـ/ 485م؛ وقد أورد المؤرخون المحدثون هذه الروايات جميعاً، لكن أحداً لم يقطع بواحدة منها على أساس من التحقيق أو التحليل.
في ضوء ما ورد من أخباره وترجمته، أما في مسألة نسبه فقد ذكر أبي الفرج الأصفهاني بأنه أبو تمام بن أوس الطائي من نفس طيء صليبية، أما ثاني الروايات فهي ما ذهب إليه المستشرق مرغليوث نقلاً عن الصولي وهو أن أباه كان نصرانياً واسمه تدوس وأنه حرّفه إلى أوس حتى ينتسب إلى طيء.
وإنطلاقاً من هذا التصور أمعن طه حسين في هذا الإتجاه، وقال بأن أصل تدوس هو تيودوس وبرّر بذلك أن يكون أبو تمام يونانياً من أصول يونانية، وثالث الروايات رواية بروكلمان؛ فقد أشار في كتابه تاريخ الأدب العربي إلى أن "تدوس" اسم معروف بين نصارى السريان، وأردف ليقول بأن نصرانية الأب لا تنفي أن يكون أبو تمام عربياً ومن طيء لشيوع النصرانية في بلاد العرب قبل الإسلام.
أما النشأة فمختلف فيها كذلك، فقد قال فريق بأن نشأته كانت في مصر وأنه كان أول الأمر يعمل ساقياً في مسجدها الكبير ولكن هذا الخبر يظلّ ضعيفاً بسبب إتفاق الكثير من المراجع على أن نشأة أي تمام كانت في دمشق حيث كان أبوه خمّاراً وكان هو يخدم حائكاً.
ويظهر أن أبا تمام، جمع في نشأته بين العمل والدرس، وأنه تلقى علومه الأولى في حلقات المساجد، ولعله آنس في نفسه ملكة الشاعرية والقدرة على النظم فرحل إلى حرص وربّما كانت بالكورة أشعاره في أسرة بني عبد الكريم، وأن هؤلاء استخدموه للنيل من خصومهم وهم بنو عتبة بن أبي عاصم، فنظم لذلك غير قليل من قصائد هجائه.
ومن ممدوحيه في حمص نوح بن عمر والسكسي ونفر من بني عبد الكريم، ويغلب الظن أن المرحلة التالية من حياته كانت في مصر، بدأها في السقاية وتحصيل آداب العرب، ومن ممدوحيه في هذه الحقبة عيّاش بن لهيئة الحضرمي، وكان من أصحاب الشرطة، وقد وجد فيه أبو تمام الناشئ ملاذاً من وطأة الإغتراب فمدحه وزعم أنه من أصول يمنية فافتخر لذلك بقباعة اليمن وملوكهم.
وفي شعر أبي تمام الذي أنشده في مصر دلالات على مواكبته الأحداث في فترتين: الأولى: في أواخر القرن الثاني، نحو سنة 198هــ، والثانية: في بداية العقد الثاني من القرن الثالث في نحو السنة 214؛ ونظراً لأن كتب التراجم لم تشر إلى إقامته الطويلة في أرض الكنانة، فقد تبادر إلى بعض المحدثين أن أبا تمام قصد مصر مرتين تبعاً للتاريخين المذكورين آنفاً، قبل أن يعود إلى بلاد الشام ويتحفز للإنتقال إلى حاضرة الدولة العباسية حيث كل أسباب الهشرة والنباهة.
هذا وإن كانت علاقة أبو تمام في بداية سيرته الشعرية غير وطيدة، فقد بلغ هذا الشاعر في خلافة المعتصم أرقى مراتب الرضى والتقدير والإعجاب، ولا سيما بعد أن هزّ وجدات الخليفة بقصيدته العصماء التي وصف بها وقعة عمورية، والتي مطلعها: السيف أصدقٍ إنباء من الكتب... في مدّه الحدّ بين السيف واللعب.
وتعتبر هذه القصيدة البائية النموذج الأمثل لشاعرية أبي تمام وميزان هذه الشاعرية وخصائصها، وكان من دواعي إبداع الشاعر في القصيدة المذكورة جمعه بين الخيال الواقعي والخيال التصويري لأن المعتصم أذن له بصحبته في تلك الحملة فعاين المعركة وشهد الأبطال في كرّهم وفرّهم، فجاء وصفه فريجاً من الصور المادية المحسوسة والتمثيلية المبتدعة، وفي إطار من الوحدة التأليفية ولونين من التصنيع العقلي والحسي، فانثالت المعاني انثيالاً آخاذاً، وارتقى أبو تمام - بما كان يدّخر من ضروب الثقافة وألوان البديع - ليوفق بين معطيات المحسوس والمعقول وليزاوج بين الجناسات والطباقات بكثير من الأناة والتدقيق، وغير قليل من الأناقة اللفظية والإيقاعات الصوتية، مضيفاً على جوّ القصيد العام هالة من المشاعر القومية والعربية والإنسانية، ساخراً من تخرّصات المنجمين ومزاعمهم جاعلاً من الخليفة بطلاً ثابت القلب والحنان، ماضي العزيمة، منطلقاً بإيمانه القوي إلى محجة النصر غير آبه بالمخاطر.
وكما اعتبرنا "فتح عمورية" صورة صادفة للقيم المعنوية في شعر أبي تمام فهي أيضاً صورة مماثلة لخزالته في التعبير وفخامته في التركيب ومزيّنات شعره البديعية واللفظية والمعنوية: جناساً وطباقاً ومقابلة، فضلاً عن التقطيع الموسيقي، والموازنة الرائعة بين الطبع والصنعة، والإرتقاء إلى كثير من خصائص الوصف الملحمي.
وقد تناوله الكثير من النقاد، وعدّوا له معايبه الشعرية، وأيّاً كانت عيوب شاعرية أبي تمام التي عددها معاصروه، ومنه إيفاله في الصنعة والميل إلى التعقيد اللفظي والمعنوي والإكثار من الأدلة العقلية في شعره، وتجاوز الطبع في كثير من الأحيان إلى ضروب من الزخرف والتصنيع، فإن المحدثين يعتبر ومن هذه النقائص عنواناً لحداثة مبكرة، تبرئ أبو تمام في عصرنا مرتبة متقدمة في تاريخ الشعر العربي.
وها هو ديوانه... إذا ما عكف القارئ عليه يتصفح أغراضه، كان بمقدور - العثور على منتخب القصائد في الشعر العربي، قديمة ومحدثة، فمثلاً سيعثر على مقطوعات بديعة من وصفه، ولو أن رساماً مرهف الحس بارعاً في التلوين وإحكام الأضواء والظلال دأب على تلك المقطوعات لإستخرج منها عشرات اللوحات الممثلة للطبيعة الحيّة، الباعثة لشتى الإنفعالات والمجسّدة للعديد من المشاهد المستمدة من بيئة الحيوان أو مسرح الوجود الإنساني.
وأخيراً تجدر الإشارة إلى أن هذه الطبعة من ديوان أبي تمام ارتكزت على نسخة التبريزي التي استند فيها إلى شروح الصولي وأبي العلاء والمرزوقي والخارزنجي، والتي استأنس د. الطباع في شرح هذه الطبعة كديوان أبي تمام بشروح هؤلاء الأعلام، في منأى عن أي إلتزام بحرفية المتون والمضامين وفي ضوء إهتمامه بتحديث حواشي الديوان، بعيداً عن كل إسهاب حمل أو إختصار مخلّ، مراعياً وضوح الدلالة تمشياً مع روح العصر ولوازم الحداثة التي تحتم الحفاظ على جوهر التراث الشعري وأصالته بتقريب مناهله وتحبيب إرتياده بكل الوسائل المتاحة، وفي طليعتها حسن إصطفاء الدلالات ودقة إختيار المفردات والعبارات.
إلى جانب ذلك حفلت هذه الطبعة بمقدمة شملت على نبذة عن حياة الشاعر بالإضافة إلى نظرة نقدية لشعر أبي تمام وشاعريته. إقرأ المزيد