تاريخ النشر: 01/01/2016
الناشر: منشورات الجمل
نبذة نيل وفرات:"عاد كلاوس إلى المدينة، صعد إلى القلعة، ثم إلى المقبرة، بحث طويلاً، دون أن يستطيع العثور على قبر الجدّة والجدّ، هبط المدينة، جلس على مقعد بساحة برانسيبال، وأخذ يتابع الناس المستفرقين في التبضّع، أو العائدين من أشغالهم، المتجولين على الأقدام أو الدرّاجات.
السيارات قليلة جداً، سأخذ غرفة يا آنسة، كم ...يوماً؟ لست أدري بعد، هل لي بجواز سفرك سيدي؟ تفضلي... أنت أجنبيٌّ؟ أين تعلمت الحديث بلغتنا بهذه الطلاقة؟...
هنا... لقد قضيت طفولتي في هذه المدينة، نظرت إليه: حدث هذا منذ زمن بعيد إذن، قال كلاوس ضاحكاً: أبدو لك إذن مسنّاً إلى هذه الدرجة؟ تضوجت الشابّة بالحمرة: كلاّ، كلاّ، ليس هذا ما قصدته، سأعطيك أجمل غرفنا، تكاد الفرق تكون جميعها فارغة، لم يبدأ موسم السياحة بعد، يأتيكم الكثير من السياح؟.... في الصيف يأتي الكثير منهم، أنصحك أيضاً بالأكل في مطعمنا يا سيدي!...
صعد كلاوس عشاءه بالمطعم الفارغ، ثم عاد إلى غرفته، فتح الحقيبة، ورتب ملابسه بالدولاب، سحب أريكة صوب النافذة وأخذ يراقب الشارع القفر، في الجهة الأخرى للساحة ظلّت البيوت كما هي، لم تُمسّ، لقد تم ترميمها،... المكتبة تقع في منزل أزرق هناك حيث كانت منذ أيام طفولة كلاوس، حين كان يأتيها راغباً في شراء الأوراق والأقلام.
في اليوم الموالي، عاد كلاوس إلى الملعب الرياضي، والقلعة، والمقبرة والمحطة، حين استبدّ به الثقب، دخل إلى إحدى الحانات، ثم جلس في حديقة، وحين كاد الزوال ينقضي عاد إلى ساحة برانسيبال، ودلف إلى المكتبة، خلف المنضدة رجل أشقر يقرأ على ضوء مصباح مكتب، المتجر غارق في الغبش، وليس ثمّة أي زبون، قام الرجل الأشقر: عفواً، لقد نسيت إيقاد الأنوار...
أُضيئت القاعة وواجهة العرض، سأل الرجل: أي خدمة يا سيّدي؟ قال كلاوس: لا تزعج نفسك أنا أنظر فقط، نزع الرجل نظاراته: لوكاس! ابتسم كلاوس: أنت تعرف أخي إذن: أين هو؟ ردّ الرجل: لوكاس! أنا أخو لوكاس، أدّعي كلاوس، كفى فراحاً يا لوكاس، أرجوك، أخرج كلاوس جواز سفره من جيبه: أنظر بنفسك...
تفحّص الرجل جواز السفر: هذا ليس برهاناً على شيء، قال كلاوس: أنا آسف... لا وسيلة أخرى للتدليل على هويتي، أنا كلاوس ت. وقد أتيت باحثاً عن أخي لوكاس، أنت تعرفه، ولا ريب في أنه قد حدّثك عن أخيه كلاوس، بلى كثيراً ما يحدثني عنك... لكن عليّ الإعتراف بأني ما صدّقت يوماً بوجودك، قال كلاوس ضاحكاً: أنا أيضاً حين كنت أحدث أحدهم عن لوكاس، ما كان يصدقني، الأمر هزليٌّ ألا ترى ذلك؟ لا، ليس تماماً، تعال لنجلس هنا.
أشار إلى طاولة واطئة وأرائك أقصى المحل، أمام الباب ذي النوافذ الذي يفتح على الحديقة، إن لم تكن أنت هو لوكاس، ينبغي إذن أن أقدم لك نفسي، اسمي بيتر، بيتر ن، لكن إذ لم تكن أنت هو لوكاس، لِمَ دخلت إلى هنا بالضبط؟ قال كلاوس: لقد وصلت أمس، أول ما قصدته هو بيت الجدّة، لكنه لم يعد قائماً، ثمة ملعب رياضيّ في مكانه.
إذا ما دخلت هنا، فلأن هذا المكان كان مكتبة منذ أيام طفولتي، كثيراً ما كنا نأتي إلى هنا لشراء الأوراق والأقلام، ما زالت أذكر الرجل الذي كان يدير المكتبة، رجل شاحبٌ وبدين، هو من كنت أحسب أني سألقاه هنا. مكثور؟ لا أدري ما اسمه، لم أعرفه يوماً... كان اسمه فكتور... لقد مات... بالطبع فهو لم يكن صغير السنّ آنذاك... هو ذا... أخذ بيتر ينظر إلى الحديقة وهي تغرق في الظلام قال كلاوس: حسبت لسذاجتي، أني سأجد لوكاس في بيت الجدّة، بعد كل هذه السنين... أين هو؟...
واصل بيتر التحريق في الليل: لا أدري... هل ثمة في المدينة من بإمكانه أن يعرف؟ كلا لاّ، أعتقد... أكنت تعرفه حقّ المعرفة؟ حدّ بيتر في عيني كلاوس: حقّ المعرفة... انحنى بيتر من فوق الطاولة وأمسك بكتفي كلاوس: كفى يا لوكاس، أوقف هذه التمثيلية إلا فائدة من ذلك: ألا تخجل من فعل هذا بي؟؟...
خلّص كلاوس نفسه من قبضة بيتر، وقام: أرى أنكما، أنت ولوكاس، كنتما مرتبطين أشدّ الإرتباط، تهاوى بيتر على أريكته: أشدّ الإرتباط، استسمحك يا كلاوس، لقد عرفت لوكاس منذ كان في الخامسة عشرة من عمره، وقد اختفى عندما بلغ الثلاثين... اختفى؟ هل تقصد أنه ترك المدينة؟ ترك هذه المدينة، وربما ترك البلاد برمّتها، وها هو اليوم يعود حاملاً اسماً آخر، لطالما وجدت لعبة الأسماء هذه بليدة. وكان جدّنا يحمل هذا الإسم المزدوج، كلاوس، لوكاس.
أمنا كانت تحب والدها كثيراً، فمنحتنا اسميه... ليس لوكاس هو من أمامك يا بيتر، إنه أنا كلاوس، قام بيتر: حسناً يا كلاوس، في هذه الحال، ينبغي أن أسلمك شيئاً، ائتمني عليه أخوك لوكاس، انتظرني... صعد بيتر إلى الشقة، وعاد حاملاً خمسة دفاتر مدرسية كبيرة، خذ... إنها لك... كان عددها في البداية أكثر من هذا، لكنه كان يراجعها دائماً...
هزّ كلاوس رأسه: كلا... لقد كان سيحتفظ لي بالأساسي، أخذ الدفاتر وقال مبتسماً: هو ذا أخيراً البرهان على وجود لوكاس، شكراً يا بيتر... ألم يقرأها أحد؟ بإستثنائي أنا لم يطلع عليها أحد"...
يمثل هذا العمل الروائي للروائية أغوتا كريستوف ثلاثية التي تتم الإشارة إليها عادة بثلاثية مدينة كا، وهي المدينة التي شعلت الإطار المكاني لأحداث الثلاثية (الدفتر الكبير - البرهان - الكذبة الثالثة)؛ فإلى أي حدّ ارتبطت تلك النصوص ببعضها إرتباطاً عضوياً ومنطقياً؟ وهل بالإمكان قراءة أحدها دون قراءة الآخر؟ وهل من الضروري قراءتها بترتيب منطقيّ، بالتتالي الذي وضعته بها المؤلفة.
لقد كتبت غوتا أولاً الدفتر الكبير، ولم يكن في نيتها أن تكتب بعده أيّ رواية تمتّ له بصلة، لكنها وجدت نفسها منجرفة إلى كتابة "البرهان" التي فيها من الحبكة والأحداث والإشتغال الأسلوبي ما يكفي لإعتبارها إمتداداً لرواية الدفتر الكبير، ثم أتى الدور على الرواية / الكذبة الثالثة لتكمل تدفق النهر الذي نبع من مدينة كوزيرغ التشيكية (مدينة كا.).
لكن التتالي الموضوعيّ بين النصوص لا يفرض في الواقع أي تتالٍ منطقي بينها؛ إذ بإمكان القارئ أن يبدأ بأي نصٍّ شاء، وينخرط في لعبة زمنية تقوم على ترتيب الأحداث وإعادة تشكيل الوقائع.
فالبداية بهذا النص الذي بين يدي القارئ (أي البرهان) ممكنة، لأنه يملك ما يكفي من المقومات ليعتبر نصّاً تاماً لا يحتاج إلى نصوص مكمّلة، وبإمكان القارئ بعد قراءته العودة إلى النصّ الأول "الدفتر الكبير" كمن يعود من زمن الشباب إلى زمن الطفولة...
فالنصوص كلها تمثل وحدة عضوية تجعلها تبني فيما بنيها جسور الإحالة... إن الوحدة العضوية بين أعمال أغوتا كريستوف لا تتوقف عند حدود نصوص ثلاثية، وإنما كل أعمالها ترتبط فيما بينها ترابطاً حميماً، يجعل قراءة كل عمل تحيل بشكل أو بآخر على عمل آخر...
ولا ريب في أن القارئ الذي اطّلع على أعمال هذه الكاتبة المجرية سيكون قد لاحظ مدى الإرتباط الحميمي بين جميع كتابات آغوتا كريستوف وبين حياتها نفسها. إقرأ المزيد