دم يترقرق بين العمائم واللحى
(0)    
المرتبة: 203,041
تاريخ النشر: 23/02/2013
الناشر: مؤسسة الإنتشار العربي
نبذة نيل وفرات:"نفس بارد من الفجر الأخير يلمس ضوء المصباح المعلق في سقف خشبي بمنزل يأوي أسرة صغيرة: زوجين وثلاثة أطفال أقل من ثمان سنوات، أيقظهن إرتجاجٌ بقربهم، يسمعون صراخاً وركضاً من جهة النافذة النائمين اسفل منها، كأن أشباحاً من جنبات الظلام تقع وتنهض وتتلاحق حول المنزل، شيء من الخوار المرعب ...ينطّ في السماء وينخفض بسرعة، شظّ الرعب عقولهم كحدّ الحنجر.
عَدْدٌ وسقوط على التراب الناعم بجوار منزلهم، الزوجة تلمس بكفّها العرق البارد الذي يسبح فيه جسدها الخائف... النار رفيقة الدخان، صياح من الأسفل ومن الأعلى، وأنينٌ طويلٌ ورائهما، استوى النروج عن فراشه، فتعلقت بذراعه تترسله بالبقاء وضبط الصمت، رفع بأصابعه الأربعة اليمنى خصلات شعرها الأسود عن عينها اليسرى ثم لمس بقدميه الدافئتين برودة الأرض واتجه إلى النافذة، ليعطي لعينه فرصة فهم ما يدور في الخارج، لم ير في الظلام غير أجسادٍ مقيدة تحاول التخلص من قيودها، "سنقتل"، قالت الزوجة له وهي تبتسم بخوف بينما أصابعه تشير بعدم الكلام، "سنجوع أقلها" فرحلت كلمتها لتتوقف في أذن جنديٍّ يعبر قربهم يجرّ أسيراً من عنقه، نأمر مرافقيه فوراً، شَعَرَ الزوجان أن الجند يأتون من أمكنة متفرقة، خلعوا الباب واقتحموا المنزل عليهم، فرمت الزوجة خدّها إلى خدّ رضيعها وجمعت ذراعيها حوله، سألوا الزوج عن اسمه واسم زوجته، لم يحب لئلا يعرفوا من صوته المشنوق أنه يبكي من الشعور بالذل، قتل أحدهم الزوجة بسيفه ومسح دمها بجديلتها، وأخذوا الزوج بعد أن أوسعوه ضرباً في عربة من عربات الأسر.
في مساء الغد فتح الزوج عينيه على صوت عند باب السجن، فتحة صغيرة من أسفل الباب وضع الطعام من خلالها، لكنه كان أعجز من الوصول للطعام، لأنه مقيد تحت نافذة السجن المقابلة للباب، بعد وقت سمع صوت سجناء يسعلون ومنادياً شديد الحدّة يصرح للحراس: الدخان... الدخان يأتي متسرباً من السقف... الدخان الدخان... كانت تلك وسيلة من وسائل القتل البطيء التي يستخدمها جلاوزة الملك في السجناء المحكومين بالإعدام...
لم يطب له مأكل ولا مرقد في سجنه المظلم، فبعد أيام راح يبكي من ألم أسنانه التي تتساقط من لثته التي أتلفها المرض... وبعد ثلاث ليال سحقته الحمى بعد أن ربطت لسانه عن الهذيان... رقّ له قلب نائب رئيس الحرس فأمر بإخراجه ليوم واحد... أيقن أنها رحلته الأخيرة، تلسعه جروح جسده المتهاوي، وهلوسات عقله تعاند همته في النجاة.
تذكر زوجته المقتولة على أيديهم فاختلطت ذكرياته بمصيره... أصرّ أن بعاند قسوة الحياة في مينار بما تبقى من رمق إنسانيته في إنقاذ نفسه، سلبوا منه كل شيء حتى أمله في الشفاء، لم يبقوا له سوى أن يأججوا شهوته بأن يموت، فكلما هرب من عذاب أو لجوه في عذاب أكبر، يزحف جارّاً جسده المأكول بأسنان المرض، ويصرح طالباً منهم: "أحرقوني... أحرقوني واتركوني حتى أصير رماداً...". مينار... مينار... وهل يطول ظلام أم أن بعد الظلام نور يبدده.
تلك هي حكاية مينار تلك المدينة التي ترقرق دم أبنائها بين العمائم واللحي... ملك لم يفكر سوى في القتل والسلطة... ملك يطيب له القتل والسفك في شعبه حتى جرى الدم في مينار أنهاراً ولكن لا بد من الليل أن ينجلي... ليزحف الثوار في يوم نحو القصر... دكّ الباب على الملك فكانت دكّة خلعته لتتزاحم البشر منه وتهوي بما حملته أيديها عليه من غرفة طالما ذاق فيها المتع واللذات. إقرأ المزيد