كي لا تنسى ؛ مواقف وطرائف ونوادر سياسية واجتماعية
(0)    
المرتبة: 205,881
تاريخ النشر: 31/12/2008
الناشر: دار المحجة البيضاء للطباعة والنشر والتوزيع
نبذة نيل وفرات:كما أن التاريخ يعتمد على المصادر والوثائق والمراجع، فأنه يعتمد أيضاً على ألسنة الناس، وعلى شفاههم التي تحكي وتروي التاريخ، عبر فتراته المتتالية.
إن التاريخ يجري على ألسنة هؤلاء، وهم بالطبع من كل الفئات والطبقات الإجتماعية، من الفلاحين البسطاء والفقراء، والمزارعين والحرفيين والعمال، إضافة إلى الشعراء والمثقفين والمتنورين، ويصل التاريخ ...من هؤلاء إلى أمثالهم، فيتلقونه سريعاً، ويتلقفونه بعفوية بالغة، تلقف الأرض اليابسة اليباب لأولى قطرات أمطار السماء.
إن التاريخ الذي يقدمه هؤلاء فيه صدق في التعبير، هو تراث شعبي حقيقي، يعكس ما في القلب مباشرة على اللسان، بدون أي تصنع أو تكلف، فيصل الإبداع إلى العقول بشكل سلس، لا يتطلب تفكيراً عميقاً لفهمه، ولا تحليلاً طويلاً لاستيعابه.
إن الأمور البارزة في هذه الأقوال التاريخية التي تجري بشكل طبيعي على الألسنة، هي العفوية، الصفاء، عدم التعقيد، وانتفاء الاشكالات والشوائب، وهي تعبر بالطبع عن واقع معين، ومن كافة جوانبه، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية.
لا أجمل ولا أحلى من الذكريات، خاصة تلك التي تبقى عالقة إما في أذهان من عاشوها، وخلال فترات تاريخية مليئة بالأحداث والتطورات، ومن كان لهم دور، بشكل أو بآخر في هذه الأحداث، وحفظوا مجرياتها وبعض تفاصيلها، وإما في أفكار من سمعوها عمن عايشوها، خاصة من أولئك المحدثين الثقاة، الذين يمتلكون ملكة في الحفظ، وأسلوباً شيقاً في السرد والتحدث.
هناك حوادث عديدة لم يشهدها المرء بنفسه، بل كانت منطبعة في ذاكرة الغير، وبقيت تلازم هذا الفريق، وتنتظر من يخرجها إلى الوجود، بقالب أدبي تراثي جميل. قد نجد اليوم فريقاً من الناس لا يهتم في إظهار هذه الصور والأحداث، ولا تعنيه في شيء من الأشياء، لا من قريب ولا من بعيد، مقابل فريق آخر يجد متعة كبيرة في سماع أحاديث الذكريات التي مرت، خاصة تلك المميزة والمعبرة، ولكن هناك قناعة راسخة بأنه سيأتي يوم نجد فيه فريقاً كبيراً من أبناء المجتمع يتساءل عن الماضي، بحيثياته وأحداثه، بحلوه ومره، بسلبياته وإيجابياته، ويحاول ربط الحاضر بالماضي، ليرى كيفية سير عملية التاريخ وأحداثه، وكيف كانت تجري الأمور في الماضي، وكيف كانت الأفكار، والعلاقات، والذكاء الفطري، غير المبني أساساً على القراءة والكتابة والدرس، المعزز مع التجربة الحية في الحياة.
ومن الأمور الجميلة في التراث، خاصة على الصعيد الأدبي والثقافي، مجالس الشعر والأدب التي كانت تعقد خاصة في منازل رجال الدين، والأدباء والشعراء، ويمكن القول أن هذه المجالس كانت تمثل خير تمثيل الأجواء الثقافية والأدبية.
وبالرغم من أن الطابع الثقافي كان غالباً في هذه المجالس، فإن السياسة والقضايا الاجتماعية لم تغب عنها أبداً، فلرجال الدين وللأدباء والشعراء اهتمامات سياسية واجتماعية واضحة، ويكفي أن نشير أن انتفاضة بنت جبيل عام 1936، والتي كانت أهدافها زراعية وسياسية واجتماعية، كان قادتها شعراء وأدباء ومثقفين متنورين، قبل أن يصبح بعضهم سياسيين في فترات لاحقة.
كان رجال الدين والأدباء والشعراء في المناطق، يتنقلون بين الحواضر والقرى مشياً على الأقدام، يصطحبون معهم أولادهم في بعض الأحيان، حيث يقضون ليال وأياماً في منازل معروفة بطابعها الأدبي والثقافي.
والشعراء كانت تستهويهم الجلسات الحلوة، الجميلة، فيرتجلون الشعر، وما أجمل هذا الشعر الذي يأتي محض صدفة، إبن ساعته، بدون تكلف أو تصنع، صادقاً، معبراً تعبيراً سليماً عن مكنونات الصدر، وعن المشاعر والعواطف، وما أجمل المطارحات الشعرية أيضاً، التي كان يرسلها الشعراء لبعضهم البعض، ويتداخل فيها الجدلي مع الهزلي، وتتخللها بعض الكلمات "الاضطرارية" التي تبقى كما هي دون أي تغيير أو تبديل، حفاظاً على صدقية التعبير وأصالته.
ومن الأمور المعبرة أيضاً في المجتمع الأمثال الشعبية، التي هي عبارة عن أقوال مأثورة، تحفظ عادة في ذاكرة الشعوب، وكل مثل منها يعبر عن حدث تاريخي معين، بأسلوب شعبي، ومفهوم مماثل أيضاً.
ولا شك أن للأمثال فوائد كثيرة، فعدا أن المثل يمثل تجربة يمكن أن تحتذى، فإنه يمتاز بغايته التي هي التعليم، وإعطاء الدرس والافهام، وأسلوب جميل بليغ، موجز، قادر على تشخيص ملامح الشعب، والكشف عن البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية وحتى النفسية في المجتمع.
هذا وتعالج الأمثال كل نواحي الحياة، من صفات الانسان كالكرم، البخل، التفاؤل، التشاؤ، والطبيعة وما فيها، المناخ، العدالة الاجتماعية، القناعة، الرجل، المرأة والأولاد، والجدود والعائلة والزواج وما يرافقه من إيجابيات وسلبيات، والحرف والتجارة والزراعة وغيرها من الأمور العديدة الأخرى التي يصعب احصاؤها.
من خلال ما ذكر جاء هذا الكتاب والذي عاد إلى الذكريات، إلى بعض الحوادث والطرائف، إلى جلسات الأدب والشعر، إلى بعض القصائد ومناسباتها، والكلمات وحيثياتها، والأمثال الشعبية وما تعنيه ليلقي نظرة من خلالها على الماضي، علنا نرى ما فيه من أمور جميلة، حلوة، نحاول التركيز عليها وإظهارها، خاصة للأجيال التي لا تعرف عنها شيئاً. إقرأ المزيد