تاريخ النشر: 01/01/2010
الناشر: دار المصري للنشر والتوزيع
نبذة الناشر:العادات والتقاليد تحتم علي أن أختم كتابي بكلمة في ظهر الغلاف. يجب أن تعلم جيدًا عزيزي القارئ أن أول من اخترع هذه العادة السيئة كان يقصد بها جر رجلك (الكاف هنا تعود أولًا وأخيرًا على ما يسمى بالزبون) فإذا شعرت من كلمة الظهر بسعادة فستشتري الكتاب فورًا، وإذا حدث العكس ...وشعرت بالغثيان ومرارة حضرتك انفقعت، فسترمي الكتاب بعيدًا: لذا قررت أن أكون مختلفًا وأخرج عن الشكل التقليدي المعروف.نبذة المؤلف:منذ أكثر من خمس عشرة سنة، كنا نلعب معًا في أجازة الصيف، وقتها لم يكن قد اكتُشف الـ(بلاي ستاشن) أو النت، وساعة البنج بـ(2) جنيهين، فلم يكن أمامي أنا وصديقى وليد سوى تضيع وقت الإجازة في الذهاب إلى مكتبات القراءة للجميع (الكدب خيبة)، أو لعب الطائرات الورقية فوق أسطح البيوت(ويالها من علقة حرامي!)، وهكذا حال كل مواليد الثمانينات.
وفي بعض الأوقات كنا نعيش معا أنا ووليد في دندنة الأغاني الموجودة على الساحة وقتها، كنا نحفظ تلك الأغاني دون التدقيق في معانيها، على سبيل المثال "مراسيل مراسيل"، "هلا هلا"، تعا تعا تعالى، ياحبيب العُمر تعااالى"، وكنا أيضا نقلب الجلسة الطفولية إلى أغانٍ وطنية، والتي كان لها النصيب الأكبر من تضييع الوقت.
أذكر أيامَ كنا نتسابق على حفظ الأغاني الوطنية، وأتذكر أيضا عراكنا على من يغني أغنية "أنا م البلد دي" أولا. والتي كانت لها شهرة كبيرة في هذا الوقت، فلا شك أنه عندما يتقابل الراحل عبد الوهاب محمد بكلماته، ويلقيها في صندوق بليغ حمدي، فلا بد من سماع عمل يستحق العراك، وها قد حدث. تشاجرنا يومها، ثم عملنا قرعة (فرة بكازوزة بيبسي)، ثم بدأ وليد، ثم وقف، ثم أكلمت أنا، ثم وقفت، وفى نهاية المطاف، قمنا بالغناء معًا، كنا مستمتعين جدا بهذه الأغنيه الأكثر من رائعة، حقا، أنا م البلد دي.
وبعد مرور سنين العمر كبرت، وكعادة الدنيا تفرقت عن صديقي وليد، وسافر وليد خارج البلاد، وعاش في غربته أكثر من 13 سنة، وكنت أفتقده حقا، فمن يومها ما عدت أغني، ولا وطني ولا حتى حلبسّة!
عاد وليد، تلك الأحداث لا تهمك أيها القارئ، كيف عاد؟ وكيف قابلته؟ وأشياء عن السينما الكلاسيكية، ولكن المهم أنني قابلته، قابلته وكلّي فرح بعودة الماضي، قابلته ولكني كنت أتنمى أن أشاهد فيه حب الوطن، سألته: ما بك؟ رد مكتئبًا: "أنا مش عارفني، أنا تهت مني".
قلت: شكلك بصيت لمصر فجأة، لقيتها اتغيرت فجأة، ونزلت دمعتك!"
قال: "رحم الله عبد الباسط حمودة".
قلت: "بس ده ما ماتش، انت تقصد عبد الباسط عبد الصمد، بس ده مش بيغني، انت شكلك نسيت كل حاجة، انت مش م البلدي ولا إيه؟"
قال: "ياااااه، صحيح، فاكر الأغنيه دي؟ تعال نغنيها يللا".
قلت: "دلوقتي؟ مش تستريح الأول؟"
رد متلهفًا: "لا لا لا لا لا لا، دلوقتي، أنا محتاجها جدا، مصر وحشتني".
قلت باستغراب: "انت حر، أهي وحشتني أنا كمان يللا نغني، فاكرها؟"
قال: "إممممم، مش أوي، بس حاول معايا".
قلت: "يا مسهّل، يللا نبدأ، أنا م البلد دي أنا م البلد دي، أنا م البلد دي أنا م البلد دي، بلد أبويا وجد جدي، بلد أخويا، وأولادي بعدي ... "
فى نفس اللحظة سمعنا صراخًا شديدًا، قلنا: " فيه إيه خير؟؟"، سألنا أحد المارين في الشارع وهو يجري، فقال: "شاب تاني انتحر ورمى نفسه من فوق كوبري قصر النيل، عشان مش عارف يتجوز".
رد وليد: "تاني؟ هو فيه أولاني؟"
قلت: "عادي يا وليد سيبك، تعال نكمل اللي كنّا بنعمله"، قال: "يعني إيه شاب تاني انتحر؟ ويعنى إيه مش عارف يتجوز"، كبرت دماغي ونفضت لكلامه وقلت: " أنا م البلد دي مصر اللي نيلها خلاها جنة مافيش مثيلها"، أطلب منه النسيان والغناء معي، حاول التنفيض هو الآخر، وبدأنا في الغناء مرة أخرى، في تلك اللحظة لم يحدث شيء، فلا تتوقع عزيزي القارئ أني سأسرح بخيالك لحدث آخر، ولكن الحدث الأهم هنا هو أننا أنجزنا مهمة غناء الأوبريت كاملا، ودون أي غلطات، وبسرعة فائقة، والمدهش هنا أننا ولأول مرة منذ خمس عشرة سنة نركز في معاني كلمات الأغنية المفضّلة لنا، وفي كل جملة نقولها ننظر لأنفسنا، ثم ننظر إلى مشهد الانتحار، ثم المكان المزدحم بالموجودين فيه، لحظة الغناء، ثم إلى الكلمات مرة أخرى، ثم أنفسنا، وانتهت الأغنية!
انتفض وليد:
"إيه ده؟ إيه اللي أنا بقوله ده؟ أنا مش مصدق ولا كلمة، أنا حاسس إني بقول شعارات كذابة، أنا بشتغل نفسي".
قلت بحسرة وقهر على ما أعانيه: "أنا م البلد دي بلدي اللي ضاعت، خليتني أخرس، طول عمري ساكت، عمال أغنى في أهرام ونيل، والفقر عندي ماله بديل، أنا م البلد دي، أنا م البلد دي".
ومن هنا، جاءت صفحات هذا الكتاب
العبد لله، اللي م البلد دي
سيد عادل إقرأ المزيد