أنطون الشوملي - شاعراً وكاتباً وناقداً
(0)    
المرتبة: 341,726
تاريخ النشر: 01/01/2020
الناشر: منشورات الرعاة للدراسات والنشر
نبذة الناشر:بقلم: خالد الشُّومَلِيِّ - الحفيدِ -
إهداءً إلى جَدّي شاعرُ الوطنِ... أنطونَ يوسُفَ الشُّومَلِيِّ - أبو الوليدِ.
بِمَجيئي إلى هذا العالَمِ، لَمْ تَتَجَسَّدْ فقط رُوحِيَ الَّتي طالَما حَلُمَ جَدّي أنْ يَتَلَمَّسَها بِأَنامِلِه، بَلْ تَجَسَّدتْ أيضاً "وَصِيَّةُ العُمُرِ" الَّتي أَوْكَلَها جَدِّي لِوالِدي، وَهِيَ أنْ يُسَمِّيَ ابْنَهُ البَكْرَ "خالد"، تَيَمُّنْا بـ "خالدِ بْنِ ...الوليدِ"، إنَّها الحِكايَةُ الَّتي أَتَلَذَّذُ بِرِوايَتِها، خاصَّةَ أمامَ أَصْدقائي وَمَعارِفي في الغَرْبِ؛ لأَنَّها تَعْكِسُ، بِسِحْرٍ وَحِنْكَةٍ، جَوْهَرَ كِياني الَّذي يَجْمَعُ بَيْنَ الدِّيانَةِ المَسيحيَّةِ، وَالثَّقافَةِ الإِسْلاميَّةِ.
حِينَ أَدْرَكْتُ أَنِيِّ لَنْ أَعْرِفَ جَدَّي، وَأنَّهُ لَنْ يَعودَ إلى هذِهِ الحَياةِ، انْتَابَنِي شُعورُ "الفَضَّةُ" فيِ قَلْبِي، وَالَّذي عَلِمْتُ أَنَّهُ شُعورٌ سَرِّمَدِيٌّ سَيُحاصِرِّني طِيلَةَ أيّام حَياتي، مُنْذُ نُعومَةِ أَظِّفاري، لَمْ تُفارِقْني عُيونُ جَدِّي، بَلْ كانَتْ كَأَنَّها تُلاحِقُنِي أَيْنَما الْتَفَتُّ، كُلَّمَا مَرَرَّتُ بِاللَوْحَةِ الفَنِّيَّةِ الوَحيدَةِ وَالفْريدَةِ، الَّتي تَرْسِمُ وَجْهَ جَدِّي الشّاعِرِ بِفَنٍّ بارع.
وأتساءل: كَيْفَ لِشاعِرٍ مُرْهَفٍ، مِثّلِ جَدِّي أَنْ لا يَبْكِيْ وَطَنّاً ضاعَ؟ لَمْ أَفْهَمْ تِلْكَ الحُسْرَةَ إِلّا بَعْدَ أَنْ قَرَأْتَ أَوَّل أَبْياتِهِ الشِّعْرِيَّةِ، وَكَانَتْ أَوَّلَ قِطّعةٍ أَدَبِيَّةِ اكْتَشَفْتُها، تَحْتَ عُنّوانِ "فِلَسْطينُ تُنادِي الشَّبابَ" (بحر المتقارب):
شَبابِي شَبابِي بِحَقِّ العَلاءْ... بِحَقِّ الوَفاءِ بِحَقِّ الوَلاءْ...
أَصِيحْوا لِقَوَّلِي فَإِنِّي أَرَى... نَعِيَّ نُعاتِي يَشُقُّ الفَضاءْ...
لَمْ أَقْرَأْها فقط، بَلْ أَحْسَسْتُ وكَأَنِّي سَمِعْتُها بِصَوّتٍ صارخٍ، أَحْسَسَّتُ بِها نَبَضاتِ قَلْبِي الَّتي انْتَظّمَتْ عَلَى إيقاعٍ مَسِيرَةٍ عَسْكَريَّةٍ، لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ قَصيدَةٍ، بَلْ كانَتْ كَالمَدافِعِ المَخْنوقَةِ بالدُّموعِ، أَدْرَكْتُ تماماً، كَطِفلٍ بريءٍ، مَعنى الحَسِّرَةِ على اغْتِصابِ الأرضِ، وَضّياعِ فِلَسْطينَ.
لمْ يَعْرِفْنِي جَدِّي وأنا لمْ أَعْرِفْهُ، لكنَّ الحظَّ رافَقَتِي؛ لأنيّ تَلَمَّسْتُ رُوحَهُ المُتّجَسِّدَةَ بقصائِدِهِ الَّتي نَظَمَها.
بإختصارٍ، جَدِّي كانَ فَخْرِيّ الأوَّلَ، جَدَّي كانَ حَسْرَتي الأولى، واسْمِيَ الأوّلَ، قصيدّتي الأولى، وإيقاعِيّ الأوَّلَ.
إنَّ غِيابي عن وطَنِي فِلْسْطينَ، وعَنْ بَلْدَتِي بيتَ ساحورَ لِسَنّواتٍ عديدةٍ بهَدَفِ الدِّراسةِ، وَتَقْصيري في الكِتابةِ باللغةِ العربيَّةِ يُمِّلِيانِ عليَّ الإحساسَ بالخَجَلِ من جدِّي، إنِّي أَسْتَفْقِدُ كلُّ يوم نُزولي إلى حديقةِ منّزلِنا، حيثُ كانَ جَدِّي يَفْلَحُها وَيكِدُّ فيها، الأمرُ الّذي يَدُّلُّ على شِدَّةِ تَشّبُّثِهِ بالأَرضِ وَدِفاعِهِ عنها، لِيُؤَكُدَ لَنا أنَّ أَرْضَ كَنعانَ صامدةً في وَجْهِ الإحتلالِ الإسرائيليِّ، وكَما وَرِثَ والدِي حُبَّ الوطنِ، وَحُبَّ العلّمِ من جَدِّي، عَهِدْتُ على نَفّسِي بأنْ أُكْمِلَ الطَّريقَ؛ بطَلَبِ العِلْمِ والِكتابةِ والإبْداعِ المُوسيقيِّ.
وأخيراً، لا يَسَعِّنِي إِلّا أنْ أَسْتَشْهِدَ بثلاثةِ أبياتٍ شِعْريَّةٍ نَظَمَها جَدِّي، وهي الآنَ مُدَوَّنَةٌ على نُصْبٍ تَذْكاريٍّ للقائدِ المُناضل جورجَ حبشْ في بيتَ ساحورَ، تُجَسْدُ حُبَّهُ للوطنِ، واسْتِعْدادَهُ للتَّضْحِيَةِ بالغالي والنَّفِيسِ من أَجْلِهِ، وكذلكَ إيمانُهُ بِحَتْمِيَّةِ الإنتصارِ على العَدُوِّ الغاشِمِ، وَتَحْقِيقِ الحُرِّيَّةِ والإسْتِقْلالِ، إذ يقولُ (بحر الوافر):
ومَا فَكَّ القُيودَ سِوى شَباب... رَأَوْا حُرِّيَّةَ الأَوْطانِ دينا...
وَما أَمْسَتْ قُيودُ الظُّلّمِ إِلَّا... سَلاسِلَ فِي رِقابِ الظّالِمِينا...
فَطَعْمُ المَوْتِ شَهْدٌ إِنْ دُعِينا... لِنَلْقَى فِي ثّرَى الوَطَنِ المنُونا... إقرأ المزيد