تاريخ النشر: 01/11/2015
الناشر: منشورات غادة السمان
نبذة نيل وفرات:"نيويورك مدينة رائعة بمتاحفها ومسارحها... ما هو أكبر معسكر للاجئين في العالم بُنيت خيامه من الأسمنت في عشرات الطبقات ويضم الملايين؟ لعله نيويورك! المدينة الشبيهة في بعض مواضعها بغابة من الأسمنت والحديد والزجاج، حيث يتحرك الناس بأسرع من السيارات في الشوارع المختنقة بزحام السير، وتبدو الأرصفة مغطاة بسيارات من ...لحم ودم يصطدم بعضها ببعض من دون أن يتوقف ويدرس كالدبابة كل من يتوقف لإلتقاط أنفاسه...
إنها مدينة تركض، الكل يركض، وثمة 4 ملايين نملة بشرية تركب المترو كل يوم في نيويورك ومليونا راكب ونصف يستقبلون "الباص" ويأتي كل عام 16 مليون زائر للفرجة على "مصحّ المجانين" أو "معسكر اللاجئين" المفتوح للجنسيات كلها... ففي نيويورك من الإيطاليين أكثر مما في فلورنسا، وفيها من الإيرلنديين أكثر مما في دبلن، وفيها من اليهود أكثر مما في إسرائيل، ناهيك عن العرب والصينيين و... إلى آخره.
وما زال المهاجرون يتدفقون والحكم الأميركي من أقطار العالم كله، وبعضهم يصير مواطناً أميركياً وهو يكاد لا يتكلم الإنكليزية!... ولكن هذه المدينة رائعة البشاعة، شبيهة بِقدْر الساحرات؛ ففيها من كل شيء غامض وظريف وعجيب وغريب وكريه ومقزز وبديع ومتوحش ورومانسي، وهي رغم كل شيء تطمح إلى إنتزاع لقب عاصمة العالم الفنية من باريس وتكاد تفلح في ذلك!...
كل ما في قِدْر الساحرات الملقب بنيويورك يغلي، وحتى أسفلت الشارع، يتصاعد البخار من شقوقه على إيقاع زعيق سيارات الشرطة والإسعاف، ولكن نيويورك تجذب بعض الفنانين بالرغم من ذلك أو بسبب ذلك، يكرهها البعض أمثال لوركا وماياكوفسكي وسنغور ويجدها غاشمة موبوءة وبلا روح إنسانية.
وينصفها البعض الآخر كالدكتور علي الشلش الذي يجدها تربة حضارية تستدعي المعايشة قبل أن تستدعي المفارقة، وينجذب إليها الكثيرون، فهي متحف مفتوح للطبيعة البشرية النارية، وقد تصعق الزائر العادي والسائح الذي يأتيها للمرة الأولى لكنها تجذب بعض الفنانين بنماذجها الإنسانية النادرة حتى لتبدو شبيهة بمنجمٍ بكر للإبداع.
وليس بوسع المرء أن يفهم قاع نيويورك إذا لم يقرأ على سبيل المثال رواية جاز لتوني موريسون ومئات الأعمال الأخرى المبدعة التي تكمل صورة نيويورك من الداخل، وقد اتخذ منها العديد من الأدباء والتشكيليين والموسيقيين مقراً وألِفوها وتعلقوا بها، بكثير من الذكاء تبني المدينة مجدها الفني... نظرة على الأرقام تجعلنا ندرك سعة "البانوراما" الفنية للمكان، ففيها: 24 متحفاً فنياً، و13 متحفاً تاريخياً، و150 مسرحاً، و12 ألف تاكسي (للهرولة بين تلك الأماكن) و3500 دار عبادة لتستغفر خالقك عن بعض ما شاهدته!...
وبعيداً عن الدعابة، لا مفر من الإعتراف بالقيمة الفنية المذهلة لمتاحفها التي أحسنت إنفاق المال واشترت أبهى كنوز العالم، ففي متاحف مثل المتروبوليتان ومتحف الفن الحديث (موما) ومتحف غوغنهام وسواها تجد نماذج لأعظم الأعمال الفنية النادرة بدءاً بالفن الفرعوني، وبمعبد تم نقله بأكمله من مصر مثلاً وأعيد تعميره وسط متحف المتروبوليتان مزنراً بمومياءاته، وإنتهاء بأجمل لوحات بيكاسو دروسو ومونيه وفان غوخ وسواهم في متحف الفن الحديث...
وكيفما تحركت بسبيل الفن من نيويورك موحياً ويطلع عليك، تلك المقبرة الصغيرة الوادعة في كنف كنيسة "الترنيتي" (الثالوث الأقدس) التي تتصدر حي وول ستريت بناطحات سحابه وملياراته، أليست رسالة من الماوراء تذكّر المهرولين خلف وثن المال أن القلب البشري يتسع لهواجس أخرى؟...
هذه هي نيويورك، قِدْر الساحرة الذي يغلي، المنصوب فوق النار لمدينة صممت على إنتزاع الزعامة الفنية العالمية إنتاجاً وتسويقاً، فهل تفلح؟ يقول البعض إنها فعلت وإنتهى الأمر، وإذا صح ذلك حقاً، فهل في ذلك شهادة لعصرنا أم عليه؟...
في جعبتها السياحية الكثير من المشاهدات التي تنقلها للقارئ... فتُشْعِره وكأنه على بساط ريح... ريح معاصرة... وبساط نقوشه وألوانه نقوش وألوان أعلام تلك الدول التي حطّت رحالها... فيها وعليها... ناقلة إليه مشاهداتها الموسومة بالواقعية حيناً... وببعض زخرفات الخيال حيناً آخر... بأسلوبها الشفاف الذي يمسّ بعفويته وتلقائيته شفاف القلب والوجدان... وذلك حين تمسّ حنايا بصيرتها ما يشعل في داخلها ذلك الحنين إلى ياسمينتها الدمشقية... أزقتها... حاراتها... فكل ما يقع عليه نظرها يثير في داخلها عاصفة إشتياق... وعاصفة حزن... وعاصفة مسرات فالمقارنة بين مشاهداتها وعالمها العربي مؤلمة... تقودها آنا إلى التحسر على ماضٍ سحيق عاشته ذاكرتها... في دمشق... في بيروت... وآنا آخر إلى الحسرة من أجل تلك المواطن التي لونها الزمن الحاضر بألوان قاتمة... بين الحنين والأنين... وبين الماضي والحاضر، تتنقل بنت بطوطة لتقدم للقارئ أدب رحلات رائع وسمته بسمات الحداثة والمعاصرة بقلمها الذكي وبأسلوبها الرائع الذي لن تضل عنهما... إقرأ المزيد