يا دمشق وداعاً - فسيفساء التمرد
(0)    
المرتبة: 1,521
تاريخ النشر: 01/01/2015
الناشر: منشورات غادة السمان
نبذة نيل وفرات:"أبكي وأبكي بلا صوت وقد توقفت بسيارتي قبل خط الحدود... توقفت عربة نقل الموتى وهبط منها المحامي نجاتي وأشار لي بيده بأن أتوقف... فقد بلغنا خط الحدود مع وطني... أبكي على رؤوس أصابع دموعي... أغسل الحدود السورية - اللبنانية بدموعي... أغسل أحزاني ربما لتتوهج وتتأجج وتشع بذلك البؤس السري ...كله الذي اختزنه... أبكي داخل شراييني، أغسل صمتي الدائم عن أحزاني أنا التي روضت نفسي منذ الطفولة على اللاشكوى واللابكاء.
ها هو الضوء الأحمر في مؤخرة سيارة نقل الموتى يغيب والأشجار وقفت حداداً على أبي... كما أزهار عباد الشمس... ولعل اليوم لم يطلق صيحاته طيلة دقيقة حداداً على أبي... للمرة الأولى منذ موت أمي أنتخب بدموع أنا التي تبكي دائماً بلا دموع... ها أنا أخيراً أبكي وأطلق سراح دموعي وصحوبة باللعنات على من حرني من الإنحناء أمام قبر أبي في جبانة "الباب الصغير" وموضع "الآس" على قبره مع همسة حب أطلقها زفرة نار: من دونك أي أنابلا مظلة ولا عجاز ولكني أعدم بأن أستمر، فقد علمتني من الخسارة ولكن مع فن رفض اليأس في آن معاً...
الظلام دامس وليس بوسعي مشاهدة شيء على بعد دمعة مني... لكنني أرى المشهد بوضوح، بل وأرى جثمان أبي، بوجه مسترخٍ، بلا حزن ولا ألم ولا معارك... ثمة نار تشتعل في قلبي وأردد: "يا نار كوني برداً وسلاماً".. بدأت تمطر أمام الأسوار اللامرئية لدمشق من حيث أقف قرب نقطة "المصنع"، أهبط من سيارتي وأقرع أبواب السور وأنا أصرخ تحت المطر: "افتحي يا ماما"، ولا من مستجيب: "افتح يا وطني... افتح يا سمسم".
ما هذا السور بلا نافذة وبلا باب وبلا شرفة لحوار!... بلى، أسمع صوتاً يشبه صوت ناهي يقول وقد رزع في حنجرته مكبراً للصوت، اركعي وادخلي زحفاً على ركبتيك إذا كنت تريدين الدخول إلى دمشق وزقاق الياسمين ومقبرة "الباب الصغير" حيث يدفن والدك... أصرخ تحت المطر بساقين غارقتين في وحل كالرمل المتحرك: لا... لن أركع... سأترك الشوق يقتلني ولن أركع... أريد أن أدخل المدينة مرفوعة الرأس، ولن أمر بك يا ناهي وبشعبة مخابراتك في دربي إلى دفن أبي في "الباب الصغير" وزيارة شبحه في "زقاق الياسمين".
... لن أركع... مهما قتلني الشوق... لن أركع... لن ينال مني ناهي وأمثاله وعصابة أزلامه... عليه... عليه هو أن يركع أمامي ويستغفرني... لا يالاذقية أمي... لا يا دمشق أبي... لا... لن يذلني أحد بعد اليوم... سأظل هكذا وحيدة ومشردة، وحين سيعيدوني تابوتي إلى الوطن لدفني، سأشترط أن يجعل عامودياً لا أفقياً، ورأسي داخل التابوت يتجه صوت سماء جبل قاسيون لا صوب التراب... وأتمنى لو أعود قبل ذلك بقليل، على قدمَيْ وإن كنت أعرف أن ذلك شبه مستحيل لمتمردة مثلي لا تعرف كيف تغلق فم صدمتها ولا كيف تحشو حنجرتها بالغنائم بدلاً من أناشيد كبريائها... أنتحب في سيارتي... أنتحب في سيارتي حزناً على أبي وعلى نفسي وعلى من سيولد بعد أن أموت فيما يتناسل ناهي ويتكاثر ولا يجرؤ أحد على تعربته... ألا ترغبين في العودة إلى دمشق واللاذقية و... و...؟...
أرغب أكثر من أي شيء في هذا الكوكب المجنون بقدر جنوني، ولكنني أغرب في العودة من دون المرور بــ"مصنع الرعب والهلع وقوائم المطلوبين... الوطن يجب أن يتسع للجميع... ادعميني يا دمشق... فأنا أكاد أهوي... ادعمني يا زقاق الياسمين... يا الجامع الأموي... يا كنيسة القديس يوحنا فم الذهب... يا حي سوق ساروحة... ادعميني... يا سوق الحميدية... يا طريق الصالحية... يا الشيخ محيى الدين... يا المهاجرين... يا جبل قاسيون... فأنا صخرة منك وفيك... ادعميني يا بومتي لنطير معاً فوق قبة السيار... ادعموني... فالذين قمعوني ورفضوني وقهروني سيمضون... وسيبقى بيت عمتي في الحلبوني وقطتها فلّة... نعم أنا مجنونة تطير إلى جانبي بومة متفائلة... ها أنا أتسلق قاسيون من سفمة الربوة... أصل إلى الصخرة الشاهقة التي يعرفها أهل الشام من زمان وقد كتب مجنون عليها "اذكريني دائماً... وكتب عليها يوم غادرت دمشق: "لا أنساك"... وها أنا أكتب عليها كلمة واحدة: "سأعود" رياح الحنين تهب عاصفة فتقطع زين أشلاء".... تتبعثر... وتعود نسمات تهب من بردى أرقُّ... تجمع أشلاءها وتعيدها إلى حضن دمشق... تستقر نفسها ولو كانت عودتها خيالاً... فالروح تحلق هناك... وليس أصعب من سلخ الإنسان عن وطنه... ذاك كمن يسلخ الروح عن الجسد...
تمضي زين تلك المتمردة في خيالاتها... كما في واقعيتها... تتحسس أمراض المجتمع تجاه الأنثى بصورة خاصة... وتجاه الإنسان بصورة أعم... ويبقى هاجس تمردها عنيفاً تجاه الغبن الذي يلقاه الإنسان في عالم المخابرات ودواماته... وهي التي تحدّت منذ أن شبّت قوانين مجتمعها مما أدى إلى إعتبارها أنثى متمردة بإمكانها زرع بذور التمرد في أي أنثى في زمانها وفي محيطها... حتى أن تأثير تمردها يمتدّ ليشمل حدود مجتمعها وهي الصحفية التي واجهت الجميع بكلمتها... ثم بتصرفاتها... إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي تقع فيه في براثن رجل مخابرات... ليجعلها أكثر تمرداً... ولكن الثمن كان غالباً... هن كلمات دفنت بعدهن أملاً وهي تبكي على رؤوس أصابع أدمعها... صارخة... يا دمشق وداعاً...
تستغرقك زين إلى حد التماهي... تمضي معها منذ لحظاتها الاولى عند إنفتاح المشهد الروائي عليها وهي ماضية في قرارها في إسقاط جنينها من زوج قررت الإنفصال عنه... لكن يكون بإستطاعتك التوقف... فترافقها عبر شوارع دمشق وأزقتها وعبر الأحداث وتداعياتها مستمتعاً بأسلوب غادة السمان... إلى النهاية. إقرأ المزيد