عائد من جهنم ؛ ذكريات من تدمر وأخوانه
(5)    
المرتبة: 2,962
تاريخ النشر: 01/01/2024
الناشر: دار الجديد
نبذة نيل وفرات:"اقفل الباب وارحل، لم أنم للمرة الأولى شعرت بروحي ترفرف فوق بناتي، تحتضنهن، تقبلهن بشوق حار لا تطفئ ناره إلا دمعاتي: ألاعبهن، أركض ويلحقن بي، أختبئ، أفاجئهن ويعلو الصراخ... أسمع أصواتهن في أذنيّ.
هنّ هنا بقربي، وأنا معهن، يطرد شعاع النور المنبثق من أعينهن ظلمة سجني وبؤسي، ابتسم، احرك يديّ ...كي أمسك بإحداهن، فيتحول النور سراباً، ويعود الليل ليرخي سدوله على حياتي، كطفل صغير، أبحث عن أمي، وأقول لها: ها أنا آتٍ إليك، سأكلمك سامحيني سيدتي، لم أنشأ أن أزعجك كما فعلت البارحة عندما قررت الموت، كنت عذبتك.
أنا آتٍ إليك، افتحي ذراعيك، احضينيني كما في طفولتي، ودعيني أقبل يديك... يا أمي الغالية، حدثت زوجتي، قلت لها: حبيبتي، تغيبت عنك مرغماً لخمسة أشهر، عذبتك، وتركتك وحيدة، لا تحزني، إنشاء الله أعوّض ما فاتنا، تعرفين مدى حبي لك وتعلقي بك، اهتمي بالأولاد.
وأنا آت، خمسة أيام وأعود، صرير الباب مرة جديدة، اصحوا، أتناول الفطور وأطلب إلى السجان أن يأن لي بقضاء حاجتي والإستحمام: تكرم عينك، وكمان بماء ساخنة: (الحمام بماء باردة عادة وكل ما أرادوا أن يميزوا سجيناً عن آخر أو لنقل أرادوا أن يأخذوا منه شيئاً ما أدخلوه الحمام الساخن).
تنعمت بحمام ساخن وليفة وصابونة ذات رائحة عطرة خلتها حمام الزواج، وفّى العقيد بوعده، وكانت ليلتي الأخيرة في فرع المسلخ، أرسلني إلى فرع فلسطين، كان ذلك في 6 أيار 1988، والله لو كنت أعلم بأن العقيد مظهر فارس مدير سجن فرع فلسطين سوف يستقبلني، لما أعلنت إضراباً عن الطعام...
وتنبهت وأنا في فرع فلسطين إلى أن أي إعتراف، بما يقودني إلى المشنقة فتشبثت ببرائتي... لا يخفى عليكم لقد أعادوا التحقيق من البداية مصحوباً والتعذيب والذلّ والشتائم منها الجديد والقديم معاً؛ بعد أن كررت أمام المحقق الجديد في فرع فلسطين بأن الإعتراف انتزع مني بالتعذيب، قال: حسناً، أرجعه إلى زنزانته يا عسكري، اسمع إلى اليوم صوت المحقق يصيح في أذني: رح أتركك شيء 15 يوم حتى ترتاح، بس تحس إنك لازم تحكي اطلبني، خذوه!...
في طريقي إلى الزنزانة رقم 13، الرقم الذي صار في ما بعد اسمي، شعرت ببعض الفخر ظنّاً مني بأني انتصرت على بطش المحقق: 15 يوماً تفصلني عن الحرية! بلغت باب الزنزانة بعد نحو ست دقائق، وكنت لا أزال معصوب العينين مكبّل اليدين؛ كانت زنزانتي ضيقة جداً، لا تتعدى قياساتها 90 سنتيمتراً عرضاً و 190 سنتيمتراً طولاً وبالإرتفاع نفسه تقريباً.
لم أرَ في الوكر هذا سجناً بقدر ما أحسست بأنه ملاذ، أهرب فيه من التعذيب والألم، بعيداً من إرهاب المحققين ولؤمهم، دفعة عنيفة من الشرطي رمتني إلى داخل الزنزانة أعادتني إلى الواقع، فإذا به يطلق سراح نظري، ويهمّ بالرحيل، فصحت: يا سيّد! الكلبجة ما فكيتها! بدها ترافقك للقبر إن شاء الله يا 13، اخرس ولا تنطق بحرف!...
هذه هي الأوامر، فهمت؟ وإلا بتعرف شو بصير! فكرت أنه سينزع الأصفاد عند العشاء، وجاء المساء، معك 10 دقائق لتأكل وتقضي حاجتك، وبعدها بترجع الكلبجة ليس؟ لأنك ابن... لم آكل، عدت من الحمام إلى الزنزانة، وكانت يداي متيبستين خصوصاً عند منطقة الكتف، فقررت أن اختبر قدرتي على التحمل علني أفوز هذه المرة.
مرت الأيام بطيئة موجعة أجلس القرقصاء أو أقف وأمشي قليلاً متكئاً على الحائط... في اليوم السادس غلبني الألم وتيبست كتفاي، لم تشفَ كتفي اليمنى بعد من ضربة عصا تلقيتها في بداية التحقيق في فرع المسلخ...
فرع المسلخ... فرع تدمر (أو عند خالته) أو فرع فلسطين... أو... أو... مواقع هي بحقٍ جهنم وبئس المصير! هي أقدارنا أن نعيش في زمن يسحق الإنسان، يجرده من إنسانيته... من حريته ويرمي به في قيعان القهر والعذاب... فجأة يجد نفسه مسلوخاً عن أهله... أو كما هو المصطلح "معتقلاً" لِمَ... لأنه بأبسط المفاهيم إنسان حامت حوله شبهات دفع ثمنها نفسه أولاً وأهله وعمره... فما هو مصيره بعد سنوات عجاف من التعذيب والقهر والسحق بأيدي أدمنت الإجرام... هو ذا العائد من جهنم... وهي ذي ذاته التي عادت معه يجران معاً أذيال الذل والتلاشي. إقرأ المزيد