منزلة التمثيل في فلسفة ابن رشد
(0)    
المرتبة: 114,293
تاريخ النشر: 17/06/2014
الناشر: منشورات ضفاف، منشورات الاختلاف
نبذة نيل وفرات:كان التمثيل عند أبي الوليد بن رشد (599هـ / 1198م) موضوع فحص منهجي ومنطقي من جهة، كما كان أداة مسخّرة للنظر بين الفلسفي والعلمي من جهة ثانية. فبما أنّ الرجل كان قد خصّص أعمالاً للنظر في أوجه القول، كما خصّص أخرى لمعالجة مسائل فلسفيّة وعلميّة مختلفة، لا بدّ أن ...يكون قد فحص التمثيل (وما يدخل في شبكته الدلاليّة) بما هو وجه من وجوه القول، كما يفترض أن يحضر التمثيل كأداة يعملها القول والنظر في تلك المسائل الفلسفيّة والعلميّة، ويفترض أيضاً أن يكون لجديّة النظر في التمثيل موضوعاً انعكاساً على طبيعة استعماله أداة. غير أنّ تعامل ابن رشد في التمثيل يضع الباحث في حيرة من أمره؛ فهو، من جهة، يعدّه من باب الأقوال الخطابيّة المقنعة أو المخيلة، التي لا تفيد العلم أو اليقين بالذات، حيث كان بالمقابل لا يترك مناسبة الا ويعلن فيها البرهان الى مجال الخيال. فديباجات كتبه يشهد لاتنصاره المبدئي للبرهان وقصده إلى التقاط الأقاويل البرهانية ووعده بالتمسّك بشرائطها؛ كما تشهد نصر من أقوى آلية التمثيل، سواء كانت مثالاً أو شبيهاً بالنسبة - كانت عند ابن رشد آلية تداولية منفتحة؛ فهي تأخذ بعين الإعتبار وضع المخاطب وطبيعة تكوينه ومدى إقتسامه والمتكلم مجالاً مشتركاً من المعارف والقيم، فالتمثيل لا يخاطب المخاطب إلا بجزء مما يعرف، وهذا الحب الذي يعرف هو بوابة للإكتشاف والتعرف على جوانب أخرى مجهولة إلى ذلك الحين.
وربما لا يسمح القياس البرهاني بهذه الإمكانية، بالنظر إلى كونه يقوم على نوع من اللغة المنفصلة عن الذات، ويقصي تبادل السؤال والجواب، ويستبعد الحيثيات المقامية والتداولية للتدليل الفعلي، ففي التمثيل يتم الأخذ بعين الإعتبار الخصم العياني، على خلاف البرهان الذي تتراجع فيه الذات أمام لغة قارة تفرض نفسها على الجميع.
وإلى هذا، فقد توسع ابن رشد في إستخدام الجهاز التمثيلي الذي كان سابقوه وقد استعملوه لحل صعوبات الأقوال العلمية والفلسفية والثيولوجية كما ابتكر تمثيلات وإستعارات أخرى خاصة به، فأصبح هذا الجهاز متشعباً؛ أي فاعلاً، ذا أثر في فحصه وفحص من أتى بعده لهذه القضايا، ومن وجهة نظر تاريخية الفكر، يبدو وأنه لا جدوى من المقارنة بين الجهازين التمثيليين المستعملين من قبل أرسطو وابن رشد، إذ تبين أنه بقدر ما تكون هناك بلورة جديدة للفكر على يد أبي الوليد؛ يكون هناك أيضاً نوع من الإحراج الجديد للمثال.
وحينما يتعلق الأمر بمثال محسوب على مجال معرفي مخصوص كأن يقال الكسمولوجيا، وبغض النظر عن الأغراض التي يقصدها من إستعماله لهذا المثال دون غيره؛ فإنه يمكن أن يقال أنه يفترض فيه أن يعكس ما انتهى إليه النظر العلمي في ذلك المجال المعرفي، وهذا ما حصل في مرات عديدة، فقد كان المثل الكسمولوجي الذي استعمله ابن رشد بغرض التمثيل لإحدى المسائل المتصلة بالإمكان أو بالضرورة أو يعكس من بعض مناحيه نقاشاً علمياً بين النظار بخصوص تصور النظام الكسمولوجي بحدّ ذاته.
ويمكن أن يقال الشيء ذاته عن مثال مقتبس من البصريات أو من الطب، ومهما يكن من أمر، فإن الغرض في هذه الدراسة التي ضمها هذا الكتاب هو البحث أولاً عن مفتاح ممكن للتعارض بين النصوص التي تنزل التمثيل منزلة عملية جمهورية غير علمية، والنصوص التي لا تكف عن إستعمال المثالات والتمثيلات والإستعارات، ثم البحث ثانياً عن تفسير ممكن لهذا التعارض؛ بل التنازع بخصوص أسماء المثال والتمثيل ومسمياتها، وفهم الدواعي التي جعلت ابن رشد يتردد (أو بتطور) بخصوص منزلة التمثيل؛ أي بين أن يدرجه ضمن أصناف المثال، وبين أن ينزله منزلة مستقلة، ومنهم إنعكاسات ذلك على تصوره لوظائفه ومصداقيته بين سائر الأقوال.
والغرض من هذه الدراسة إظهار أن حضور أساليب التمثبل والإستعارة والأمثولة في النصوص الفلسفية الرشدية لم يكن لمجرد التصوير أو الزخرفة الأسلوبية أو البلاغية أوفلنة من فلقات الفيلسوف الذي عرف بجديته، وإنما كان أسلوب تفكير فيما شغله من مسائل.
لذلك، يفترض الباحث أن هذه الآليات لم تكن نافعة فقط في رفع قلق العبارة، عن طريق البحث عما يناسب مخاطباً لم يعد هو المخاطب المقصود بنصوص أرسطو، وعما يلائمه من الأمثلة لتبليغ المعاني التي لا تعترف بالخصوصية الثقافية لهذا المخاطب أو ذاك، وإنما كانت تشارك في تأسيس تلك المعاني وفي ترتيبها الترتيب المناسب لقارئ جديد.
وهنا يفترض الباحث بأنه، ومن هذه الجهة، أن ابن رشد قد كان منخرطاً في سلك تقليدٍ فلسفي اشتهر به أبو نصر الفارابي تقليداً يفصل بين المعاني ومثالاتها حتى يتمكن من التعديل والتغيير في الثانية جزئياً أو كلياً بالشكل الذي يخدم قراءة المعنى، وسعياً منه لتحقيق غرضه هذا ارتأى الباحث إدراج مسألة أساسية ضمن جدول أعماله بحثه هذا؛ تتعلق بتصحيح منزلة ابن رشد في تاريخ التقاليد المنهجية في البحث والنظر، إذ أن من المعتاد أن يجده الباحث وصنعاً ضمن التقليد المشائي المناهض للتمثيل والمنتصر للقياس البرهاني.
لذا، فقد باتت مراجعة هذا التصنيف من غايات بحثه هذا، وذلك في سبيل إظهار أن هذا التصنيف مؤسس فقط على بعض ما صرّح به ابن رشد، أكثر مما هو مؤسس على ممارسته النظرية، وعليه يمكن القول بأن المطلب في هذا البحث قد أنحصر في متابعة منزلة أو منازل التمثيل بين نصوص ابن رشد التي تنظر في أصناف القول (والتمثيل أو المثال الواحد منها)، وتلك التي تنظر في المسائل العلمية والفلسفية والمدنية (والتمثيل أو المثال من الآليات التي استعملت في حلها).
وأخيراً، فإن ما يسعى إليه الباحث أن يكون عمله هذا بمثابة مساهمة في كتابة فصل من فصول كتاب التمثيل عند ابن رشد، وذلك عن طريق التقاط ولمّ تلك الجوانب من المتن الرشدي التي انشغلت واشتغلت بالمثال والتمثيل، وإعادة إخراجها إخراجاً مناسباً. إقرأ المزيد